يا حادي العيس عَرَّج كي أودعهم.. يا حادي العيس في ترحالك الأجُل. لا أدري لماذا يقفز إلي ذهني عكس ما أراده الشاعر في هذا البيت من الشعر حينما أري مصادفة الأستاذ محمد حسنين هيكل علي شاشة فضائية الجزيرة القطرية يروي تجربته مع ثورة 23 يوليو وثوارها بدءاً من قائدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومروراً بواقعة اعتقال سكرتيرته السيدة نوال المحلاوي التي اعتقلتها أجهزة الأمن حينما كان الكاتب الكبير وزيراً للإرشاد القومي. يبدو أن الرجل الذي اعتاد العيش في بهرجة الأضواء وعصر النجوم اللامعة كما أطلق عليه هو في كتابه خريف الغضب قد حن إليها بعد خفوت نجم قناة الجزيرة الفضائية القطرية في الفترة الأخيرة التي يحكي فيها تجربته وينبش فيها لمدة ساعة كاملة كل خميس بحثاً عن الماضي لعله يحكي فيها تجربته. وينبش فيها لمدة ساعة كاملة كل خميس بحثاً عن الماضي لعله يجد ذاته مرة أخري، فبرغم أن البرنامج انصرف عنه المشاهدون منذ حلقاته الأولي وفشل في تحقيق أي نسب مشاهدة كانت تراهن عليها الجزيرة لتعويض الأجر الكبير الذي يتقاضاه هيكل طوال السنوات الماضية، إلا أن قرار استمرار هيكل في سرد حكاياه قرار سيادي يخص أمير قطر وحده لغاية في نفسه ولمآرب أخري باتت معروفة يؤديها هيكل ببراعة في الوقت المتفق عليه. ويبدو أيضاً أن ذاتية الرجل تأبي عليه إلا أن يثير فتنة أو يفتعل زوبعة أو لغطاً كل حين يعيد بعده الحديث عن شخصه الذي لا يعنيه ما يقال عليه أو يكتب عنه المهم لديه أن اسمه ورسمه يظل حاضراً. لقد عتاد الناس أن يسمعوا منه كلاماً لا يعطونه بالاً، فمنذ أيام وأثناء الذكري الأربعين للرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي أراد لها هيكل ألا تمر دون أن يرسل إيحاءات وتلميحات يتهم فيها الرئيس الراحل أنور السادات بتسميم الزعيم جمال عبد الناصر ثم يعود وينفي بمكر وعلي استحياء ربما خوفاً من الملاحقة القانونية أنه لا يصدق تورط السادات في مقتل عبد الناصر لاعتبارات أخلاقية وإنسانية، لكن لم يقل لنا هيكل هل هذه الاعتبارات تخصه أم تخص الرئيس السادات؟ والغرض من ذكر واقعة إعداد الرئيس السادات لفنجان قهوة لصديقه الرئيس عبد الناصر بالطريقة التي قيلت بها هي فقط لطرح اسم الأستاذ هيكل من جديد في وسائل الإعلام. وهو نفسه الذي شغل الناس بقبره الذي يشيده علي مساحة 250 متراً مربعاً مزوداً به شاشة عملاقة لإعادة أحاديثه التليفزيونية وتجربة حياته علي مدار الزمن وتغطي جدرانه الخارجية لوحة كبير تضم صوره مع قادة وزعماء وملوك ورؤساء العالم، فيما يبدو أنه يريد أن يرسل رسالة ما لا نعرفها إلي ملك الموت، أي ذاتية هذه وأي غطرسة تتملك الإنسان حتي مع الاستعداد للموت ببناء قصر منيف وحصين يستقبل فيه ملك الموت الذي لا يهاب أحداً؟ أين ذهبت الاشتراكية التي كان يبشر بها هيكل الشعب المصري في الوقت الذي يتمرغ هو فيه في نعيم الرأسمالية حيث حياة الرفاه التي يعيشها والطائرات الخاصة والقصور المتناثرة التي يمتلكها في عواصم عدة حول العالم؟ ألا تعتقدون مثلي أن اليسار كان وما زال غبياً، فكم من الثروات كونها تجار اليسار ومنظرو الاشتراكية علي حسابه. وفي الوقت الذي كان فيه هيكل يهاجم الرأسمالية في بعض الدول العربية المجاورة كان يتسلل إلي عواصمها طمعاً في عفو أو صفح أو منة لم ينلها حيث كان يحزم حقائب العودة إلي القاهرة بعد أن تطول إقامته في الفندق دون أن يجيبه أو يطلبه أحد. الرجل ما زال حبيس عصره الذي ولي وانقضي فهو يعتقد أنه ليس من حق أحد غيره أن يناقش أو ينتقد الحقبة الناصرية، الرجل اعتاد أن يضفي مسحة من القدسية علي نصائحه، وآرائه ويقزم معارضيه بلباقة، الرجل الذي كان يطمح في أن يلعب نفس الدور الذي لعبه في عهد عبد الناصر مع الرئيسين السادات ومبارك لم يدرك أن الزمن حينها قد تغير وأن المناخ الصحي الذي فرضته انتصارات أكتوبر لن يسمح لأبواق النكسة (التي رآها هيكل حسابات تكتيكية) بامتطاء بساط رياح التغيير التي هبت علي مصر إيذاناً يبدأ عصر جديد تتنفس فيه الناس الحرية وتتكشف فيه الحقائق وتلفظ فيه الزيف ومنظري الهزائم والانتكاسات.