وسط حالة التطرف التي تسود الحياة البشرية في الوقت الحالي، وحالة المبالغة في كل شيء: في الحب وفي الكراهية، في السرف وفي التقتير، في التمسك بتلابيب الحياة المعاصرة وفي النكوص علي الأدبار حيث الحياة الفائتة.. وسط هذا يأتي المنهج القرآني فريداً في دعوته الأبدية إلي الاعتدال في كل شيء، وإلي الوسطية كمنهاج حياة، وكغاية تسعد الإنسان وتحقق له أهدافه.. ودعونا نسأل أنفسنا: لماذا زاد عدد المصابين بمرض السكر، علي سبيل المثال، في العالم، ولماذا زادت حالات الإصابة بالذبحة الصدرية والجلطة وغيرها من الأمراض التي يشير الأطباء إلي أن لها مصدراً أساسياً هو الإسراف مادياً ومعنوياً: الإسراف في الطعام، والإسراف في القلق والتوتر.. وأن علاج كل هذه الأمراض يكمن في الاعتدال مادياً ومعنوياً. وقد وضع المولي سبحانه وتعالي ناموساً للمسلمين يجب أن يسيروا علي هديه، وأوضح له "سر التميز" الذي يجب المحافظة عليه، إذ يؤدي التفريط فيه أو التهاون في العمل به إلي فقد الميزة التنافسية وبالتالي فقد شرط الوجود، إذ أشار المولي إلي ذلك بقوله "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيدًا"، وقد أشار المفسرون إلي أن الوسطية هنا تعني الاعتدال من ناحية، والعدل من ناحية أخري.. والعدل والاعتدال هما وجهان لعملة واحدة، وبعدان لمفهوم واحد هو "الخُلق السوي".. وفي سورة القلم، إشارة إلي قصة الأخوة أصحاب الجنة الذين أقسموا ألا يعطوا المساكين من خيرها، وتسللوا إليها فوجدوها خاوية علي عروشها، علي الرغم من تحذير أخيهم (الأوسط) لهم بألا يفعلوا ذلك "قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون".. وقد تعددت تفسيرات المفسرين لهذه الآية، خاصة تفسير كلمة "أوسطهم"، حيث ورد في تفسير الجلالين أنه "خيرهم"، وفي تفسير القرطبي "أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم". وفي تفسير آخر أن الأقرب للمعني أنه أعدلهم وأرجحهم عقلا، ذلك أن السن في مثل هذه القضية ليس بذي أهمية حتي يذكر، و إلي ذلك ذهب ابن عباس وقد سأله سائل: يا ابن عباس كان أوسطهم في السن؟ فقال: لا بل كان أصغر القوم سنا وكان أكبرهم عقلا، وأوسط القوم خير القوم، والدليل عليه في القرآن أنكم يا أمة محمد خير الأمم، قال الله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، وإنما يكتشف الإنسان الطريق السوي باعتداله في العقل والبصيرة لا بمقدار عمره، وحيث كان أخوهم هذا صاحب بصيرة نافذة فقد سبقهم إلي معرفة الحق ونصحهم، وقرأ النتائج المستقبلية قبل وقوعها، وكذلك يكون أولو الألباب من القادة الصالحين". اللهم كما خلقتنا "أمة وسطاً" قائمة علي العدل والاعتدال والوسطية، اجعل المسلمين في بلادنا يعودون كما كانوا، بلا مبالغة في المظاهر، وبلا تطرف في السلوك، وبلا حرص علي ما لايفيد دينهم ودنياهم.