في كثير من الأحيان تأبي الذاكرة إلا أن تتمسك بشدة بتفاصيلها الأولي، التي تشكل مخزونها الأول من الصور والحكايات والروائح وحتي الآلام، وهذا ما تؤكده لنا الروائية ميرال الطحاوي، في روايتها الجديدة "بروكلين هايتس"، التي تتسم ككل رواياتها بالتفاصيل التي تربط الماضي بالحاضر، عن طريق خيط رفيع، فتجد مرايا الذاكرة تعكس نفس الأشخاص والأماكن والأحداث في كل مكان، وإن تباعدت المسافات وتشتت الأفكار.. عن تجربتها الجديدة قالت لنا ميرال الطحاوي في هذا الحوار. جاءت أحداث الرواية ما بين "بروكلين هايتس" ومصر فكيف واتتك فكرة الرواية؟ - سافرت إلي أمريكا 2008 للالتحاق بجامعة كولومبيا بمنحة من مؤسسة فولبريت، ولأسباب لم أفهمها وقتها، ولم أفهمها حتي الآن، أوقفت فولبريت منحتي، بدعوي أنني لم أوقع علي نسخة العقد في مصر، وبالتالي هم غير مسئولين عني في أمريكا، قضيت وقتا عصيبا أحاول فهم الدوافع وراء ذلك، ولم أجد إجابة حتي الآن، كنت وقتها قد استأجرت بيتا في مدينة "بروكلين"، حيث عملت مع مكتب المهاجرين ومع غيرها من مكاتب اللاجئين، أترجم بعض الحوارات البسيطة، حتي أصبحت خبرة اللجوء والاغتراب والنساء العربيات جزءا من يومياتي، بعدها التحقت بجامعة نيويورك، وعملت في عدة جامعات أخري، لكن ظلت تلك اللحظات القاسية في ذاكرتي، نساء صغيرات أو في منتصف العمر، أرامل في الغالب، يسحبن أطفالهن في رحلة البحث عن حياة جديدة، وعلي الرغم من الرغبة في الحياة، فإن الكثير من الألم والخبرات السيئة والحزينة يمكن قراءتها بسهولة من ملامحهن، العرب المهاجرون في أمريكا قصص مليئة بالتفاصيل. كانت تجربة الاغتراب تفتح لي أبوابا كثيرة للتذكر وعلي الرغم من أن كتاباتي في الغالب فيها الكثير من النوستالجيا، فإن مفارقة الوطن بعد وفاة والدتي، وفقدي لكثير من الأصدقاء المقربين بالموت جعل خبرة الاغتراب أكثر قسوة. استخدمت تقنية التماثل أو المرايا في تقديم شخصياتك من كل من البيئتين المصرية والأمريكية مثل الضيفة والجدة زينب و"إيميليا".. حدثينا عن ذلك. - نعم أعتقد أن النص كان متعدد المرايا، فكل جزء من الحاضر له قرين من الماضي، وكل شبيه يستدعي في الذاكرة مثيله، هذا يحدث في الحياة والنص أراد تأكيده، أعتقد أننا نبدأ حياتنا معتقدين أننا لا نشبه أحدًا وأننا مختلفون عن بقية البشر، وعندما ننضج نكتشف أننا متماثلون في المصائر كل العجائز يشبهون بعضهم البعض كما تقول إيميليا ربما أيضا كل التجارب الإنسانية متشابهة. من يقرأ الرواية يلاحظ استدعاءك للماضي بأحداث الحاضر رغم اختلاف المكانين ومزجك بينهما في انسيابية بالغة في الرواية.. - لا أعرف كيف احتشد الماضي بهذا الشكل، لكنني قبل الكتابة كنت قد مررت بخبرة مرض الوالدة رحمها الله، وعدت لبيت أبي أثناء تلك الفترة، التي قاربت السنتين، عدت لكل طفولتي مرة واحدة، شوارع قريتي، أصدقاء طفولتي، وعندما سافرت لنيويورك، صار كل ما تركته ورائي يسير أمامي، الأشياء والأشخاص الذين عشناهم لا يموتون، في الحقيقة يعيشون بداخلنا طوال الوقت، في الكتابة أيضا كما في الحياة تحتشد الذاكرة لأشياء غير معروفة. صارت كل الأشياء تذكرني بطفولتي، وجوه الناس ورائحة الثياب وأشكال العجائز، ورائحة الأراجيل في مقاهي نيويورك كانت تثير حنيني، كنت في سفر قصير مع صديقي يوسف أبورية إلي باريس، وكانت مدة السفر أربعة أيام، ومع ذلك قطعنا باريس شرقا وغربا بحثا عن المقاهي العربية ومحلات الفلافل وأماكن العرب، وفي طائرة العودة ضحك يوسف وقال لي: تصوري احنا كنا باين علينا في الحسين نحن لم نر من باريس غير ضواحي العرب. وهذه القصة تؤكد أن الاغتراب يؤجج الحنين. شكل شخصية البطلة مجموعة من المعتقدات في الأبراج والبخت والزوج الخائن والروح الحرة فهل هكذا ترين نموذج المرأة العربية؟ - لا بالطبع لا، البطلة لا تمثلني ولا تمثل المرأة العربية ولا تمثل أحدًا سوي الخيال الذي أنتجها، صحيح أن اهتماماتي بما وراء الطبيعة وقلق الموت قد ظلل النص بهذه التساؤلات، لكن فكرة النبوءة وكسر النبوءة موجودة في الأدب وفي الأساطير منذ قديم الزمان، يستخدمها الكاتب للمفارقة ولخلق أبعاد رمزية يقصدها، لكنها تؤكد بشكل أو بآخر أننا لا نهرب من أقدارنا لا بالابتعاد المكاني ولا بالهرب ولا بالبخت والحظ، ولا حتي قضايا الزواج والخيانة لا يمكن حصرها في نص ولا يمكن اعتبارها تمثيلا لشيء، فما يحدث في الشرق يحدث في الغرب هي مجرد علاقة إنسانية تترك ظلالها علي جسد وروح البطلة، وفي الحقيقة في اللحظات المرة والحالكة في حياة الإنسان، نبحث عن بريق أمل في بقايا القهوة في قعر فنجان متسخ. هل ترين أن الرواية العربية الحديثة تحظي بنقد عربي محايد ومتحمس لها؟ لا أعرف، في الحقيقة رغم تورطي في نقد الرواية، ورغم كتابي عن الرواية العربية، ورغم متابعتي، لا يمكن إلقاء اللوم علي النقد، رغم قلة عدد النقاد، وأعتقد أن المشكلة أن النقد في جامعاتنا بعيد ومتأخر بشكل كبير في متابعة الأعمال الأدبية الجديدة، ولا يشارك في إثراء الحالة الإبداعية، كما أن الساحة المصرية فقدت الكثير من النقاد المهمين مثل: فاروق عبدالقادر ومحمود أمين العالم والدكتور عز الدين إسماعيل والدكتور علي الراعي وغيرهم، وسأظل مدينة لهذه الأسماء لأنهم وغيرهم هم من قدمني في بداية حياتي، وكانوا أساتذة بحق، ولا يمكن إنكار حاجة الساحة العربية لأسماء نقدية لها ثقلها ووعيها. في رأيك هل يساند أبناء جيلك من المبدعين بعضهم البعض أم أن هناك بعض الأحقاد ؟ - الأحقاد أيضا أشياء إنسانية ومفهومة لطالما كان بين أبناء المهنة الواحدة تنافس ولكن هذا لا يمنع الاعتراف بالنص الجميل، وأنا أحب أن يظل هذا الانتصار للنص الجميل بلا أحقاد هوية لجيلنا لأن هذا هو المناخ الذي يصبح فيه التحقق ممكنا، أعرف أن الكثير من النميمة الأدبية حقيقة قائمة بالفعل وموجودة لكنها تظل نميمة والنصوص الجيدة تكفل لنفسها الحياة، بالنسبة لي ما زلت أؤمن بأن ارض الله بالمعني المطلق رحبة وتسع الجميع وان كل إنسان له حيز وجودي لايمكن أن يلغي الآخرين. كيف ترين الكتابة النسوية في العالم العربي الآن؟ - متعددة مثل العالم العربي ومتفاوتة مثل العالم العربي ولها تجليات كثيرة . أحب متابعتها وأعتقد أنها ترسم مسارا إبداعيا حقيقيا . هل تعبر الكتابات النسوية عن معاناة المرأة العربية؟ في كثير من الأحيان تعبر عن ذاتها وعن كاتبتها، لا يمكن اختصار وضع المرأة العربية في نص، لكنها كتابة تثير الانتباه في العالم كله، فأنا لا أخطط لها ولا أعرف كيف ولا ماذا سأكتب غدا، أتمني أن أكتب فقط حتي الموت.