أفضل ما يفعله أي كاتب للسيناريو أن يدرس نوع الأفلام الذي يريد أن يقدم فيه موضوعه.. وفي فيلم «Salt » الذي يحمل اسم بطلته «سولت» توجد شواهد كثيرة علي أن مؤلفه «كيرت ويمر» درس أفلام الجاسوسية، وأنه أراد أن يعيد إليها سخونتها وإثارتها مدركا أنها كانت في ذروتها أثناء فترة الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، لذلك كان أذكي ما فعله رغم أن فيلمه حافل بالملاحظات أنه أعاد إحياء سنوات الحرب الباردة من زاوية مختلفة، ونجح أيضا في استلهام أجوائها ولحظات التوتر التي يمكن أن تدفع الأمور إلي مواجهات ساخنة هذا هو نجاح «سولت» الأساسي الذي يتميز به عن تجارب أفلام الجاسوسية الأخيرة في موضوعاتها ومعالجاتها المختلفة. نعرف طبعا أن نشاط الجواسيس لا يتوقف علي الإطلاق، لكن الحروب الساخنة أو الباردة تعطي أفلام الجاسوسية درجة عالية من التصديق، علي سبيل المثال: الصراع في المجال النووي اكتسب مصداقية مدهشة بعد أزمة الصواريخ الكوبية التي جعلت العالم فعلا علي حافة مواجهة نووية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق، وفي فيلم «سولت» توجد كل عناصر أفلام الجاسوسية التي ترسم أجواء الحرب الباردة: المواجهة النووية.. نشاط الكي جي بي.. العالم علي حافة الحرب.. محاولات اغتيال الرؤساء.. زرع العملاء.. بل إن هناك إعادة تفسير لاغتيال الرئيس الأمريكي «جون كنيدي» باعتبار قاتله «لي هارفي أوزوالد» رجلاً روسيًا تم زرعه في أمريكا تحت اسم «أوزوالد»، والحكاية كلها قائمة علي أسطورة من أساطيرة الحرب الباردة وهي قيام جهاز الاستخبارات السوفيتية بتبني مشروع ضخم لإعداد جيل كامل من العملاء منذ طفولتهم، حيث يتم تجميعهم في معسكرات خاصة، ويتم تعليمهم اللغة الإنجليزية، وإعدادهم ليكونوا مواطنين أمريكيين، ثم تسند إليهم هوايات أمريكية، ويعيشون في الولاياتالمتحدة كمواطنين أمريكيين، ثم يخترقون كل الأجهزة الحساسة، ويعيشون حياة طبيعية تماما استعدادا لتنفيذ ما يكلفون به، ويمد الفيلم الذي أخرجه «فيليب نويس» الفكرة علي استقامتها حيث يجعل الفريق الذي ينفذها في الاستخبارات يستمر في تنفيذها حتي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويقود كل ذلك إلي خطر إشعال مواجهة نووية حتي بعد انتهاء الحرب الباردة! ما فعله كاتب السيناريو إذن أنه استعار عناصر قديمة جدا وجعلها في ثوب جديد يمكن أن يكون محتمل الحدوث اعتمادا علي أن هناك من الروس من أزعجهم انهيار الامبراطورية السوفيتية، وأزعجهم أكثر التفوق الأمريكي الساحق، لكن هل نجح السيناريو تماما في تحقيق فكرته الذكية؟ الحقيقة أن النجاح لم يكن بقوة الفكرة لأسباب كثيرة أهمها الطريقة التي رسمت بها شخصية الفيلم وعموده الفقري (إيفلن سولت) «أنجلينا جولي».. من حيث الشكل تحمل الشخصية الكثير من مهارات «جيمس بوند» الحركية والعقلية، لكنها لا تنجح بالقدر نفسه في التعبير عن معاناتها النفسية مثل شخصية العميل «بورن» الباحث عن هويته مع أن «سولت» شخصية ثرية جدًا، في الأصل هي من الأطفال الروس الذين تعلموا علي الطريقة الأمريكية، ثم فقدت هويتها الأصلية، وتم زرعها كمواطنة أمريكية في قلب جهاز الاستخبارات الأمريكي نفسه، ونفذت عملية ضد كوريا الشمالية للتجسس علي برنامجها النووي، وتم اكتشافها وتعذيبها حتي أطلق صراحها، وتزوجت بعد قصة حب من عالم حشرات شهير هو «مايك كراوس» كانت قد استخدمته لدخول كوريا الشمالية، ورغم هذه التقلبات لا تلمح أبدًا صراع اختلاط الهويات في حياتها، ولا معاناتها بين عملها في الجاسوسية ورغبتها في الاستقرار مع زوجها الذي تحبه، ولا تستطيع أن تتبين درجة إيمانها بتنفيذ ما تعلمته منذ طفولتها ضد أمريكا، ولذلك كله بدا انقلابها علي خطة الفريق الذي تنتمي إليه مفاجئا، ربما يكون قتل الفريق لزوجها الذي أحبته أحد المبررات، ولكن حتي عملية القتل بدت مفاجئة أيضًا ومصنوعة، وكأنها محاولة من المؤلف لإفشال الخطة المُحكمة التي تعيد فكرة «الروس قادمون» وفي قلب أمريكا ولكن من زاوية مختلفة تمامًا حيث يتم التلاعب بفكرة العميل المزدوج واستنزاف إمكاناتها حتي النهاية، وبطريقة مشوقة وجذابة. ظلَّت شخصية «سولت» حاضرة أمامنا بجاذبية «أنجلينا جولي» وبجمالها الواضح، وبالتنفيذ المتقن لمغامراتها الحركية رغم المبالغة المألوفة علي الطريقة «البوندية» ولكن ظلت المشكلة أن عالم الشخصية الداخلي ظل غائبًا مع أن الأمر كان يحتمل المزيد من الفلاشات علي الماضي، حياتها مع أسرتها الروسية الأصلية، علاقتها مع زملاء الجاسوسية الذين شكلوا الفريق، والذين ستلتقيهم في أمريكا في مواقعهم الحساسة، مدي إيمانها بالدروس التي تلقتها حتي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وحتي بعد أن عملت هي كجاسوسة للولايات المتحدة في كوريا الشمالية ثم تحملت التعذيب بصبر دفاعًا عن عملها في الCIA، كلها عناصر أساسية غير واضحة أدت إلي جعل تحولات الشخصية غير مفهومة أو مفاجئة في أفضل الأحوال. ولكن السيناريو أخفي هذا العيب الأساسي في شخصية «سولت» بعناصر كثيرة جيدة رغم غرابة الفكرة، منها مثلاً بداية الفيلم بالبطلة وهي جاسوسة أمريكية تعذب في كوريا الشمالية مما يثير حيرة المتفرج مع مفاجأة اكتشاف أنها عميلة روسية زرعت منذ مدة طويلة داخل الCIA، ومنها أيضًا تلك المطاردات الحركية التي شغلت حيزًا كبيرًا للاستفادة من قدرات أنجلينا في عالم الأكشن التي ظهرت في أفلام سابقة، ومن الحيل أيضًا الاحتفاظ بمفاجآت متكررة لعناصر روسية زرعت منذ سنوات في قلب أمريكا يظهرون ل«سولت» بين كل وقت وآخر، كل ذلك ساهم في جذب اهتمام المتفرج الذي ظل مشدودًا إلي الشاشة حتي اللقطة الأخيرة مما صرفه عن إطلاق تساؤلات مشروعة عن أهداف فريق التجسس من إطلاق حرب نووية يمكن أن تدمر أيضًا روسيا، ببساطة ظلت الفكرة في حاجة إلي مزيد من الشروح والمبررات، رغم طرافة عملية زرع العملاء، ورغم غرابة محاولات اغتيال الرئيس الروسي والأمريكي معًا! كانت «أنجلينا جولي» مناسبة تمامًا للشخصية، واستغل المخرج حضورها البدني والجسدي بطريقة مقنعة إلي حد كبير، وربما يتم استغلال قدراتها كممثلة جيدة في أجزاء قادمة محتملة.