كثيرون يقولون إن مصر تتجه نحو نفق مظلم، وآخرون يطرحون دائماً السؤال: مصر إلي أين؟ حتي تحول إلي شعار في بعض المظاهرات أو المواقف الاحتجاجية، وفقرات في برامج تليفزيونية ومشاهد في أفلام أو مسلسلات، ومواقف مسرحية. وإذا كان طبيعياً أن يستخدم المعارضون للحكم وأصحاب المواقف الجريئة الشعار: "مصر إلي أين؟" ليعبروا عن مخاوفهم تجاه صورة المستقبل التي يرسمها البعض، أو كي يضغطوا علي الحكومة ورمزها وحزبها أو ليمارسوا التقطيم والتوبيخ والتلبيخ في وجه كل من يعتبرونه تابعا للسلطة، فإن مزايدين من المقربين من دوائر السلطة نفسها أيضاً وجدوا في الشعار فرصة لاستغلاله للإيحاء بأن قلوبهم مع الشعب، وأن عقولهم تفكر في مستقبل مصر، وأنهم لا ينامون خوفاً علي البلد مع أن أحوال البلد لم تصل الي هذا المستوي إلا بسببهم!! لم تكن تلك المقدمة حاضرة في ذهني حين وقفت مع الأستاذ صلاح منتصر ومعنا الأستاذ عبد القادر شهيب في الطابق الرابع والثلاثين من مبني وزارة الخارجية نطل من إحدي شرفاته علي مشهد يجمع النقيضين، علي اليمين كانت بولاق وكل المناطق الشعبية والعشوائية المحيطة بها، والممتدة حتي شبرا من جهة وميدان التحرير من الجهة الأخري. وفي المواجهة العباسية ومدينة نصر وحتي التجمع الخامس بعيداً. وعلي الجانب الآخر من المشهد عبر نهر النيل كانت جزيرة الزمالك بما فيها من بنايات راقية تحمل آثار تاريخ قريب افتقدناه، ومساحات خضراء مقسمة ما بين نادي ومركز شباب الجزيرة، إضافة لدار الأوبرا والنادي الأهلي وبرج الجزيرة وبعض الفنادق الشاهقة الارتفاع. كنت والأستاذ صلاح منتصر والاستاذ عبد القادر شهيب في المبني الأنيق لتلبية دعوة من وزير الخارجية أحمد أبو الغيط علي مائدة إفطار وانضم إلينا لاحقاً الأساتذة مكرم محمد أحمد وإسماعيل منتصر ومحفوظ الأنصاري وجلال دويدار وعصام كامل ونبيل زكي وشاركنا الإفطار السفير حسام زكي. بالطبع أثناء تناول طعام الإفطار تركز الحديث مع الوزير أبو الغيط حول الملفات المهمة في المنطقة وخصوصاً المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين والتطورات الخطيرة في السودان واحتمالات تقسيمه. وكذلك الملف النووي الإيراني والوضع في لبنان. لكني صراحة لم أشارك في الحوار إلا بهز الرأس أو مصمصة الشفاة أو عقد الحاجبين، وكلها ردود فعل علي ما يقال أمامي مراعاة للظروف التي نتناول فيها طعام الإفطار وتقديراً لصاحب الدعوة والحضور. أما السبب الحقيقي في رفضي المشاركة وعن قناعة هو يأسي من تطور إيجابي في تلك الملفات فلا المفاوضات المباشرة من وجهة نظري ستؤدي إلي شيء، ولا العرب قادرون أصلاً علي التفاوض، ناهيك عن الحرب، ولا السودان سينجو من التقسيم، ولا إيران سترضخ للضغوط أو الغرب سيتعامل معها كما يتعامل مع إسرائيل. وبالتالي فإن كل نقاش يدور بين مثقفين مصريين أو عرب حول تلك الملفات والمعضلات وتحرق فيه الأعصاب وتكاد العروق تنفجر بالدماء ينتهي وتظل المشاكل عالقة ولا تحل بل تتفاقم. انظروا الي كل مشاكل العرب عبر قرن كامل سنجد أنها دائما تتجه الي الأسوأ وإلي التعقيد دون الحلول والي النفق المظلم دون أي نور. كان ذهني وقت الإفطار حول مأدبة وزير الخارجية! يركز في الحديث حول الذي دار بيني وبين الاستاذ صلاح منتصر قبل الافطار حينما كنا نشاهد مصر من أعلي ولاحظنا فيها النقيضين: الرقي والتحضر من جهة والتخلف والتأخر من جهة أخري. سيطر الموضوع علي ذهني حين كان الضيوف يناقشون مع الوزير الأوضاع الخارجية وأنا أفكر في الأوضاع الداخلية التي أثرت علي سياسات مصر الخارجية، خصوصاً أن المشهد من أعلي وبعد نظرات خاصة ورؤية شاملة صادم وكئيب. هكذا تحول البلد إلي الصورة التي اصبحنا عليها دون أن ندري أننا ساهمنا كلنا دون استثناء في تخريبها وتحويلها الي حي عشوائي كبير ماذا ننتظر من وزراء أو مسئولين عاشوا في حي عشوائي وماذا نتوقع من تصرفات تصدر عنهم أو حتي أشخاص عاديين نموا ونشأوا وترعرعوا في حي عشوائي كبير. إنها المحصلة التي نلمسها ونعيشها الآن علي كل المستويات في السياسة والاقتصاد والفن والرياضة، في الأكل والشرب في المسكن والملبس، نحن أصبحنا نتاج بلد عشوائي كبير فلا تنتظروا مني إلا كل ما هو عشوائي.. كبيراً كان أو صغيراً.