ما الحد الفاصل بين الفن والسياسية؟ وهل يعني هذا الحد استخدام الكلمات المباشرة للتعبير عن هذا أو ذاك؟ أم أنه لكل شيخ طريقة في توصيل أفكاره، تعتمد بالضرورة علي «أسلوبه في استخدام مفردات اللغة. أفكار توالت علي وأنا أتوقف بمؤشر قنوات التليفزيون عند وجه لم أصدق عيني وأنا أراه متوجهاً، لكن الأبيض والأسود كانا مؤشرين علي أن البرنامج من «التراث» وأن صلاح جاهين كان يتحدث في تليفزيون آخر غير الذي نراه الآن.. وإن حمل نفس الاسم وانطلق من نفس المؤسسة. كان الحوار داخل برنامج شهير قديم هو أوتوجراف قدمه وأعده الإعلامي طارق حبيب لفترات طويلة.. ظلمت هذا الرجل وكنت أراه محايداً أو بارداً أكثر من اللازم كمقدم برامج لا أتحدث عن أدبه الجم وصوته الخفيض ولكن عن وجهه الذي لا يمكنك أن تلمح عليه تعبيراً ما بالحماسة أو الرفض، القبول أو الاستنكار أو أي تعبير، لكنني حين رأيته بعد هذه السنوات بمناسبة احتفال التليفزيون المصري بعيده الخمسين، وحيث أخرج المسئولون عن الاحتفال البرامج من المكتبة ونفضوا عنها الغبار وقدموا لنا الموجود منها عبر قناة خاصة انطلقت مساء الاربعاء الماضي 21 يوليو في نفس موعد الانطلاق الاول عام 1960 سموها قناة «التليفزيون العربي» بعد أن كانوا قد اتفقوا علي اسم «قناة التراث»، والاثنان لا يصلحان ولكن الأهم من الاسماء هو الأعمال التي بدأ عرضها منذ هذا اليوم علي هذه القناة، وعلي غيرها من القنوات. وقد عرض هذا البرنامج الذي صادفته علي القناة الثقافية وفيه استضاف طارق حبيب، صلاح جاهين وكأن الماء امتزج بالنار.. شعلة ذكاء وشقاوة وحيوية ترد علي اسئلة جيدة لكنها مغلفة بطبقات من السلوفان العازل لأي حرارة.. أعجبني الحوار برغم هذا وشعرت أنه ربما الاسلوب الملائم لرجل في حرارة صلاح جاهين المفكر والكاتب والرسام والكاريكاتوري وأحد منظري ثورة يوليو المهمين من خلال أشعاره التي قرأناها أو تلك التي غناها عبدالحليم ورددناها معه بألحان كمال الطويل.. كان صلاح متألقا وقادراً علي تجنب الردود المباشرة إلي حد كبير حول علاقته بالكتابة والسياسية وعملية صناعته منذ البداية التي أكد فيها دور الاسرة المثقفة المستنيرة، ثم دور الصدفة في حياته التي كشفت عن حسه الساخر وقدرته علي بلورته عبر رسومه. أما علاقته بالسينما فقد اعترف بأن سعاد حسني هي السبب فيها، وأنها التي صممت أن يكتب فيلم «خللي بالك من زوزو» بعد أن قرأت الأغنية التي كتبها للاستعراض الرئيسي فيه، قالت إنه هو الذي يقدر علي كتابة الفيلم ولا أحد غيره.. وكانت النجمة الاكبر في السينما المصرية في هذا الوقت المبكر وسبعينيات القرن الماضي.. وتحول جاهين الي كاتب سيناريو لاشهر فيلم استعراضي في تاريخ السينما وأكثر الافلام تعبيرا عن الصراع الاجتماعي الذي لم تنهه ثورة يوليو لصالح الفقراء والطبقات الكادحة، كما كانت تحلم في بداياتها. تذكرت سنوات سعاد حسني الاخيرة، وكيف سمعنا مرارا أن وفاة جاهين افقدتها الصديق والعقل الذي استطاع احتواءها واستيعاب أحزانها وآلامها مما يحدث ولا تجد له تفسيرا.. لم تكن العلاقة بينهما من جانب واحد هو التلميذة والمعلم إذن، ولكنها صداقة من جانبين استطاع كل جانب منهما أن يدرك قيمة الآخر وجوهره وأن يسبح معه في أجواء ترفع من شأنهما معا، هكذا حدث مع سعاد نتيجة صداقتها بجاهين وهكذا اعترف هو بأنها اكتشفت فيه كاتب السيناريو القدير.. لكن الأهم هنا هو أن طارق حبيب بكل أسلوبه الحيادي حصل من جاهين علي ما لم يحصل عليه غيره ممن استضافوه في برامجهم ربما لأنه وفر له جوا من الهدوء والصمت دفعه الي محاوله تغييره بحرارة تعبيره عن نفسه.. وربما يأتي أسلوب هذا الإعلامي المخضرم كرد غير مباشر علي تصاعد أساليب الاغلبية ممن نراهم الآن علي الشاشات لا هم لهم إلا استفزاز ضيوفهم إيمانا منهم ومنهن بأن الاستفزاز هو أقصر الطرق لتسخين «الجو» ورفع درجة حرارة البرنامج وإبقاء الجمهور في انتظار خناقة وشيكة، واقناع المعلنين أن يأتوا.. مع ذلك لابد من العودة هنا للفكرة نفسها وهي أن يكون الكتاب والمفكرون والأدباء هم نجوم البرامج المهمة علي الشاشة الصغيرة «السحابة» للبشر؟ ولو تأملنا ما يعرض علينا الآن من برامج البدايات مثل «نجمك المفضل» لليلي رستم و«أوتوجراف» وبرامج أماني ناشد وسلوي حجازي وسميرة الكيلاني وكل نجوم الشاشة الصغيرة في ذلك الوقت لوجدنا المفكرين والكتاب في المقدمة ثم نجوم الفن، التسجيل الوحيد لطه حسين مع أدباء عصره جاء في اطار أكبر البرامج جماهيرية وقتها فهل كان للمفكرين والأدباء أنفسهم شعبية في ذلك الوقت أم التليفزيون وهو يحبو انتبه لاهمية وجودهم علي شاشته وقيمة أفكارهم للملايين من المشاهدين؟ قد يقول البعض إن أوعية واقنية الجهاز كثيرة بدليل وجود قناة مخصصة للثقافة، ولكن الرد هنا أن وجود قناة مخصصة للثقافة ليس دليلا علي وجود الثقافة نفسها في التليفزيون وليس دليلا علي الاهتمام بها بعد أن تغير كل شيء علي مدي الخمسين عاما الماضية منذ انطلق البث التليفزيوني المصري الاول.. وحتي اليوم.. لانه توجد مؤشرات جديدة مثل نسب المشاهدة لهذه القناة أو تلك وبالتالي نسب الاهتمام بها من قبل المسئولين عن الجهاز نفسه.. ثم فلسفة المحتوي في جهاز تملكه الدولة حتي اليوم.. ولماذا يتيح للمشاهد برنامجا أو ثلاثة اسبوعيا في أكثر أوقات المشاهدة أهمية، لبرامج تستضيف فقط نجوم السينما والمغني حتي من الدرجتين الرابعة والخامسة وربما الاقل، بينما لا يمكن أن تستضيف كاتبا روائيا أو شاعرا أو قصاصة ممن يحصلون علي الجوائز في مسابقات عديدة لايعرفها أحد من هذا الجمهور العريق للتليفزيون؟ هل هي أزمة فهم.. أم فكر.. أم انقياد وراء معايير الصيغة التجارية للعمل الاعلامي التليفزيوني تحديدا؟ ثم كيف نطالب المشاهدين بأن يذهبوا لصناديق الانتخابات قريبا وأن يحسنوا الاختيار وكل ما يرونه من وجوه يبعدهم عن التفكير في الأمور الجدية.. ويدعوهم الي الفرجة.. فقط.. خاصة في «السوارية»؟!