في كثير من المواقف يجد المرء نفسه غير قادر علي التمييز بين ما هو " حقيقي" ، وما هو " مفتعل" .. بين ما يصدر عن احساس حقيقي بالحياة وبمشكلاتها المعقدة ، وما هو من قبيل" الغناء" علي الناس والضحك عليهم. تساوت الأمور وتداخلت في كثير من الأحيان لدرجة التمازج الكامل ، والتماهي التام .. خاصة إذا كان من يتحدثون إليك ذوي صدق سابق ، أو تحسبهم كذلك.. وفي سورة " يوسف" إشارة بليغة إلي هؤلاء الناس الذين تحسبهم أهل صدق وما هم كذلك ، وتحسبهم أهل مروءة وما هم علي هذا النحو .. وأقصد بذلك " إخوة يوسف" ... إذ يؤدي بنا تحليل الأصول ، وتحليل شجرة العائلة إلي الاعتقاد في صحة ما يقولون : فهم أولاد نبي ، وأحفاد نبي (يعقوب بن إبراهيم)، ولذلك فمن المنطقي أن يكونوا علي النحو ذاته من الاستقامة والاعتدال.. فإن لم يكونوا أنبياء فعلي الأقل يتخلقون بأخلاق الأنبياء .. وكما قال الإمام الشافعي " أحب الصالحين ولست منهم .... لعلي أن أنال بهم شفاعة ... وأكره من تجارته المعاصي ... ولو كنا سواء في البضاعة" ... غير أن إخوة يوسف قد جعلهم الحقد ينسون أخلاق من تربي في بيت نبي ، وجعلتهم الغيرة أسري أهوائهم.. وقد أشار القرآن الكريم إلي ما فعلوه " وجاءوا أباهم عشاء يبكون" .. قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ علي الاعتذار بالكذب . وحتي لا يستطيع النبي يعقوب أن ينظر في ملامحهم وأن يكتشف كذبهم .. وروي أن يعقوب عليه السلام سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال : ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا . قال : فما أصابكم وأين يوسف ؟! فقصوا عليه القصص المزيف ، وكأنهم أحسوا بضعف روايتهم ، فأشاروا "وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ" أي لست بمصدّق لنا في هذه المقالة ولو كنا في الواقع صادقين، فكيف وأنت تتهمنا وغير واثق بقولنا؟ وهذا القول منهم يدل علي الارتياب، وكما قيل: يكاد المريبُ يقول خذوني.. وقد روي أن امرأة تحاكمت إلي القاضي شريح فبكت ، فقال الشعبي : يا أبا أمية (يقصد شريح) أما تراها تبكي؟ فقال شريح : لقد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة ، لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.. وقد قال ابن الجوزي في كتاب (الحمقي والمغفلين) أنه دخل مسجداً يوماً فوجد رجلاً من الحمقي يتوسل ببعض الأسماء الأعجمية ويسأل الله بها، فقال اسماً غريباً، فقال: ما هذا الاسم؟ فقال: هذا اسم الذئب الذي أكل يوسف، فقال: ويلك!! إن يوسف لم يأكله الذئب، فقال: هذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف، قال: كل الذئاب لم تأكل يوسف!