المكان: باريس، الزمان.. منتصف القرن التاسع عشر.. الوقت، في المساء قبل منتصف الليل. شخصان في منتصف العمر يدخلان مطعماً شهيراً، طلبا مقابلة صاحب المطعم وقالا له: نحن فنانان.. ألفنا قطعة موسيقية نعتقد أنها جميلة.. ونعتقد أيضاً أن فرقة المطعم الموسيقية عندما تعزفها فإن مطعمك سيحتل مكانة خاصة في باريس. رد عليهما الرجل: رواد هذا المطعم من عشاق الطعام الجيد.. ويأتون إلي هنا من أجل ذلك وليس ليستمعوا إلي الموسيقي، كثير من زملائكما يأتون إلي هنا ومعهم نوتات موسيقية كثيرة، وكل منهم يعتقد أنه عبقري.. ولكن قائد الفرقة الموسيقية يرفض عزفها لأنها دون المستوي. حسنا ياسيدي.. أعط هذه النوتة للمايسترو، واطلب منه أن يلقي نظرة عليها.. نحن سنقبل حكمه عليها بكل سرور.. إذا أعجبته لن نكلفك فرنكاً واحداً.. اسمح لنا فقط بتناول طعام العشاء عندك مجاناً لعدد من المرات نتفق عليها. فكر الرجل في العرض بسرعة ثم أخذ منهما النوتة وذهب بها إلي المايسترو الذي ألقي عليها نظرة سريعة ثم أخذ يحدق فيها باهتمام وأخيراً قال: أعتقد أنها جيدة وجديدة. عاد صاحب المطعم وزف إليهما الخبر المفرح، لقد وافق قائد الفرقة علي عزف القطعة، ثم عرض عليهما في مقابل هذه القطعة الموسيقية أن يتناولا طعام العشاء مجاناً لمدة شهر واحد فوافقا علي الفور وجلسا علي أول مائدة. قامت الفرقة بالتدريب علي القطعة الموسيقية نهاراً وقدمتها لزبائن المطعم في المساء ضمن مقطوعات أخري فلفتت أنظارهم وحازت علي إعجابهم. كانت بالفعل جيدة وجميلة، وفي الأيام التالية بدأ بعض الزبائن يطلبها من المايسترو عندما كانت الفرقة تتأخر في تقديمها، بل وبدأ البعض يطلب استعادتها مرات عدة طوال الليل. كان الموسيقيان في منتهي السعادة، عشاء جيد وزبائن يصفقون لهما كل ليلة، وكما يحدث لكل الأشياء الجميلة في الحياة، انتهي شهر العسل، أقصد شهر العشاء ولم يعد لصاحبينا الحق في الحصول علي أية وجبة إضافية.. ومرت عليهما ليال شتوية قاسية كانا يمران فيها بالمطعم ليريا من خلال الواجهة الزجاجية الزبائن و قد تكدسوا بداخله مستمتعين بالدفء والطعام والشراب وبالموسيقي التي كانت السبب في اجتذاب هذه الأعداد الغفيرة من الناس. أمر فظيع أن تري الآخرين يجنون ثمار إبداعك بينما أنت جائع,وقررا أمراً، ذات ليلة دخلا المطعم متنكرين, ركب كل منهما لحية كثيفة وشارباً ضخماً وطلبا أفخم أنواع الأطعمة والمشروبات، وظلا يأكلان طبقاً بعد الآخر وكأسا بعد كأس حتي كادا يموتان من التخمة, وعندما جاءت لحظة دفع الحساب خلعا أدوات التنكر وقالا للجرسون: الموسيقي التي تجذب الناس لهذا المكان، من إبداعنا نحن.. ليس من العدل أن يستمتعوا هم وتغتنوا أنتم ونجوع نحن.. لن ندفع مليماً واحداً.. اتفضلوا افعلوا بنا ما تشاؤون. استدعي صاحب المطعم الشرطة فقبضت عليهما وحولتهما إلي النيابة التي قدمتهما للقضاء بتهمة الاستيلاء علي مواد تموينية بدون وجه حق، وأمام القاضي حكيا حكايتهما ببساطة وألم فحكم عليهما القاضي بالغرامة المقررة في القانون، ثم دفعها من جيبه. ولكنه في حيثيات الحكم أهاب بالمشرع في فرنسا أن يتنبه لهذا الخلل المروع، وطالبه بأن يصدر من التشريعات ما يكفل للفنان المبدع أن يحصل علي جزء مما يحصل عليه الآخرون من ثمار إبداعه، هكذا ظهرت إلي الوجود ولأول مرة في التاريخ, القوانين والتشريعات التي تحتم حصول الفنان علي حق الأداء العلني. الإبداع بكل أنواعه هو أعظم مصادر البهجة عند البشر.. بعد الفلوس طبعا, حاكذب عليك.. حاغشك؟