لقد ناقشنا في المقال السابق رأي الفقهاء الذين قالوا بالوجوب، ونعرض الآن لرأي جمهور الفقهاء الذين منعوا منعا باتا وجوب خدمة الزوج علي زوجته، وممن ذهب إلي ذلك مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل فيما حكاه عنه بن قدامة في المغني، وأهل الظاهر كداوود الظاهري وابن حزم الأندلسي، قالوا: لأن عقد النكاح إنما اقتضي الاستمتاع بين الرجل والمرأة، لا الاستخدام وبذل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدل علي التطوع ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟ وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (19/44) ما يلي: (إلا أنهم اختلفوا في وجوب هذه الخدمة: فذهب الجمهور (الشافعية والحنابلة وبعض المالكية وبعض الأحناف) إلي أن خدمة الزوج لا تجب عليها) انتهي. وقال ابن قدامة في (الشرح الكبير): (وليس علي المرأة خدمة زوجها في العجن والخبز والطبخ وأشباهه، نص عليه أحمد) انتهي. وجاء في كتاب (الإسلام الدين الفطري، ص 128) للتركستاني أبو النصر التراذي قوله: (إن الإسلام لا يستوجب علي ذمة الزوجة هذه الأنواط من الخدمة كما جاء في النصوص الفقهية في المذاهب الثلاثة: الحنفي، الشافعي، الحنبلي، ولو كان معسرا فقيرا، فلا يجوز أن يكره الزوجة علي الخدمة، ولها أن تقوم بها بتطوع ورضاء نفس، ولا سيما إذا كان الزوج معسرا لا يقدر علي أجرة الخدمة، أما إذا كان الزوج موسرا فيجب عليه إحضار خادمة حسب ضرورة العائلة، غير أن مذهب الإمام مالك يقول بوجوب خدمة الزوجة لزوجها إذا كان الزوج معسرا إلي أن يصبح غنيا قادرا علي أجرة الخادمة) انتهي. وقال التركستاني في نفس الكتاب ونفس الصفحة ما يلي: (ولعدم وجوب خدمة الزوجة لزوجها نجد لذلك حِكَماً تعود إلي هذه الزوجة التي أكرمها الله بالإسلام، أولا: إن إيجاب الخدمة علي الزوجة يمس بكرامتها، ولا سيما إذا كانت من أسرة شريفة تعودت علي استخدام الخدم في الشئون العائلية. ثانيا: إن إيجاب الخدمة علي الزوجة يجعلها أشبه بالخادمة في البيت وهذا يقلل من شأنها. ثالثا: قد يحول وجوب الخدمة علي الزوجة بينها وبين القيام بحق الأولاد وحسن تربيتهم، رابعا: أن الله لم يوجب علي الزوجة خدمة الزوج ولا خدمة البيت، إنما ترك الجميع لاختيارها بحيث لا تكره ولا تحاسب إذا امتنعت، وإنما ذلك صونا لكرامتها) انتهي. وقد يقول قائل: وإذا لم تقم الزوجة بأعمال البيت، فمن الذي سيقوم بها والزوج مشغول سائر يومه بالكسب، وأكثر الناس لا يستطيع دفع أجرة للخادمة؟؟. أجيبه فأقول: وماذا لو كانت الزوجة كذلك مشغولة سائر يومها في العمل والكسب لمساعدة الزوج فمن يقوم بأعمال البيت؟، أليس من الظلم والإجحاف أن يجتمع علي المرأة عملان؟، عمل داخل البيت وعمل خارجه. إن اعتذار الرجل بالعمل وانشغاله خارج البيت لا يوجب علي زوجته خدمته، ولا يعفيه من خدمة نفسه إن هو أراد ذلك، ألم يسافر عشرات الآلاف بل مئات الآلاف بل ملايين الرجال خارج بلدانهم إلي الدول الخليجية والأوروبية وغيرها للعمل؟، ويتركون زوجاتهم وبيوتهم، ويعملون في تلك البلدان طيلة اليوم، ومع ذلك يطبخون لأنفسهم ويغسلون لأنفسهم وينظفون فرشهم وأماكن سكنهم، ويمكث أحدهم في سفره ذلك سنوات طويلة يعمل خارج البيت وفي الوقت ذاته يخدم نفسه فلماذا في وجود الزوجة لا يستطيع الزوج القيام بأعمال المنزل؟ وكذلك حينما يقوم الرجل بأداء الخدمة العسكرية وغير ذلك من الظروف التي قد تجعل الرجل يعمل في مكان ما ويقوم علي خدمة نفسه، فالاحتجاج والاعتذار بعمل الرجل وانشغاله خارج البيت هو عذر مفضوح وغير مقبول. (للحديث بقية)