في صيف عام 2006م كنت أتجول في العاصمة البريطانية لندن وتحديدا في شارع وايت هول الذي يضم مكاتب الحكومة البريطانية والذي يمتد من ميدان البرلمان وصولا إلي ميدان الطرف الأغر «الحمام». لقد وجدتني أتوقف فجأة أمام دواننج ستريت وهو شارع صغير يتقاطع مع شارع وايت هول لكنه مغلق بأبواب حديدية يتولي مراقبتها رجال شرطة فاقتربت من أحدهم وسألته لماذا تغلقون هذا الشارع ولماذا لا يسمح للجمهور بالاقتراب من المنزل رقم 10؟ كنت أتوقع أن يتم القبض علي واقتيادي إلي مبني سكوتلانديارد الذي يقع علي بعد خطوات حيث اضطر إلي الإجابة علي أسئلة من نوع لماذا تسأل عن منزل رئيس الوزراء؟ وما الجهة التي تعمل لديها وكيف ومتي وأين غير أنني فوجئت بالضابط يجيب علي سؤالي ببساطة موضحا بأنه بالفعل كان يسمح بالمرور في الشارع.. ولكن بعد التفجيرات التي نفذها الجيش الأيرلندي في التسعينيات فقد قررت السلطات غلق الشارع إلي الأبد. تذكرت هذا الحوار وأنا أشاهد عبر قناة ال بي.بي سي مسيرة الانتخابات البريطانية التي أسفرت عن تغير الحكومة في أقل من نصف ساعة. لعل الجميع قد تابع الانتخابات البريطانية التي أجريت في شهر مايو الحالي ولاحظ أن هذه الانتخابات قد تأثرت بالنموذج الأمريكي الذي يعتمد علي المناظرات التليفزيونية من المعروف أن السياسيين البريطانيين ليسوا معتادين علي ذلك. فقد سبق أن رفضت مارجريت تاتشر «حزب المحافظين» إجراء مناظرة مع زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار جيمس كالاهان في انتخابات عام 1979 علي اعتبار أن هذا الأسلوب غير معروف في بريطانيا. لقد شاهدنا ولأول مرة في تاريخ الانتخابات البريطانية ثلاث مناظرات متتالية لرؤساء الأحزاب الرئيسية جوردون براون رئيس حزب العمال وديفيد كاميرون رئيس حزب المحافظين ونيك كليج رئيس حزب الديمقراطيين الأحرار. وكانت المناظرة الأولي التي نظمتها استوديوهات أي تي في في 15 مايو في مدينة مانشيستر قد تناولت الشئون الداخلية والمناظرة الثانية التي أنتجتها إذاعة سكاي البريطانية في 22 في مدينة بريستول تتمركز حول الشئون الخارجية. أما المناظرة الثالثة التي أشرفت عليها إذاعة ال بي بي سي في 29 مايو في مدينة بيرمنجهام فقد تمحورت حول الشئون الاقتصادية وقد توقعت استطلاعات الرأي أن انتخابات 6 مايو سوف تشهد بزوغ نجم نيك كليج البالغ من العمر 43 عاما وديفيد كاميرون البالغ من العمر 44 عاما. لقد أجريت الانتخابات يوم الخميس 6 مايو حيث شاهدنا الناخبين يقفون في هدوء ينتظرون دورهم للوصول لصناديق الاقتراع ولم نسمع ضجيجا هنا أو هناك ولم نشاهد أنصار المرشحين يتشابكون بالأيدي والأرجل. وكما هو متوقع فإن نتائج الانتخابات جاءت متطابقة مع توقعات خبراء استطلاع الرأي التي أشارت إلي أن بريطانيا سوف تواجه وضعا شائكا لم تشهده منذ عام 1974م حالة البرلمان المعلق وهي حالة تحدث إذا لم يستطع أي حزب الحصول علي الأغلبية المطلوبة التي تتمثل في النصف + 1 أي 326 من إجمالي 650 مقعداً وبالفعل فقد فشلت كل الأحزاب في تحقيق الأغلبية حيث حصل حزب المحافظين علي 305 مقاعد وحصل حزب العمال علي 258 مقعداً وأما حزب الديمقراطيين الأحرار فقد انتزع 57 مقعداً. وللخروج من هذا المأزق فإن الأمر تطلب تحالف حزبين أو أكثر لتشكيل حكومة وحدة وطنية كنا نتوقع أن يتضامن حزب الديمقراطيين الأحرار مع حزب العمال لأن هناك تقارباً أيديولوجيا بين الحزبين غير أن المفاوضات وصلت إلي طريق مسدود بينما نجح حزب المحافظين في التعاون مع الديمقراطيين الأحرار لتشكيل حكومة ائتلافية ما يدعو إلي التأمل هو أن الانتقال من حكومة إلي أخري تم بطريقة سلسة وبهدوء شديد وجاء متسقا مع الأعراف البريطانية العريقة. لقد تلقي رئيس الوزراء براون أنباء مفادها أن مفاوضي الحزبين الغريمين قد أوشكوا علي التوصل لاتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية فأعد حقائبه واستعد لمغادرة المنزل الذي أقام فيه منذ عام 2007م ففي يوم الثلاثاء الموافق 11 مايو وفي تمام الساعة السابعة و18 دقيقة خرج براون من 10 دواننج ستريت ووجه كلمة للصحفيين المتمركزين أمام المنزل العتيق الذي يعود تاريخه إلي ثلاثة قرون ماضية حيث تقدم بالشكر للشعب البريطاني وعبر عن أمنياته الطيبة لخليفته ديفيد كاميرون ثم استقل سيارته متوجها إلي قصر باكينجهام حيث قدم استقالته للملكة إليزابيث وأوصي باختيار زعيم المحافظين رئيسا للوزراء ثم في حوالي الساعة 7.49 اتجه إلي مقر حزب العمال حيث ألقي كلمة عبر فيها عن امتنانه وتقديره لمناصريه وزملائه في الحزب وأعلن عن تقديم استقالته من رئاسة الحزب تاركا المجال لخليفته السيدة هاريت هارمان ولم يمض سوي عشرين دقيقة حتي توجه كاميرون إلي قصر باكينجهام لمقابلة الملكة التي كلفته رسميا بتشكيل الوزارة.