ديستوفيسكي هو كاتب روسي من أعظم الروائيين في التاريخ إن لم يكن أعظمهم، لابد أنك قرأت له رواية واحدة علي الأقل، أما إذا كنت لا تعرفه، فمن المستحيل أن تكون من قرائي، علي الأرجح أنت من القلة المندسة بينهم لهدف آخر غير القراءة. في عهد القيصر قبل الثورة البلشفية صدر الحكم بالإعدام علي هذا الكاتب العظيم وصدر العفو عنه في نفس اللحظة التي كان فيها علي بعد عدة سنتيمترات من حبل المشنقة، كان لتلك الحادثة تأثير مروع علي حياته، ثم قضي فترة من حياته في سجون سيبيريا فكتب رواية عن أيامه في السجن بعنوان " منزل الأموات" وصف فيها حياة السجن الوحشية كما وصف فيها أحوال زملائه من عتاة المجرمين. واصفًا الملل القاتل الذي يشعرون به نتيجة حياة السجن الرتيبة. في أحد المشاهد، أحد النزلاء يتقدم بهدوء من حارس أو ضابط ويخرج من بين طيات ملابسه موسي ويقتله؟ لماذا...؟ لاشيء، هو فقط يريد أن (يغيّر) هذا هو ما عرفه كاتبنا من زملائه، عندما قالوا له إن فلانا غيّر، يعني قتل شخصا لكي يستمتع بالتغيير، لن يفعل ما يفعله كل يوم، لن يتعرض لما يتعرض له كل يوم، سيعزلونه في مكان بعيد عن زملائه، ثم يحققون معه تحقيقا مبدئيا، ثم يرسلونه إلي وكيل النيابة في بلد بعيد، ثم ترسله النيابة ليحاكم أمام القاضي في بلد آخر. هي رحلة سياحية يغيّر فيها الجو، أي يتخلص من الملل، سيري مشاهد وأماكن أخري وأناسا آخرين. وفي السجون المصرية أيضا يحدث أن واحدا من النزلاء يتقدم من مأمور السجن ويقدم له قطعة حشيش، وبالطبع يحيله المأمور إلي النيابة التي تستدعيه للتحقيق،والهدف من ذلك أن يري الشوارع ويري الناس في رحلة سياحية مبهجة، رايح النيابة ، جاي من النيابة، رايح المحكمة جاي من المحكمة، هكذا يتاح له أن يري مظاهر الحياة بعد أن نفي بعيدا عنها لسنوات طويلة. في مسرحية لماكس فريش، موظف في بنك، شخص وديع منضبط، يخرج يوم الأحد صباحا ويذهب إلي البنك المغلق ويقتل حارسه، ويدوخ المحقق معه بحثا عن دافع للقتل فلا يجد، وهنا يدرك أنه قتل بدافع الملل فقط، يدرك المحقق ذلك لأنه هو نفسه يشعر بالملل من تلال القضايا التي يقوم بالتحقيق فيها، يصارح المحقق ربة منزله بأنه يشعر بالتعب من هذه القضايا فتنصحه بأن يلقي بها في نار المدفأة وهكذا في أروع مشهد لنزول الستار، ينهمك الاثنان في إلقاء ملفات القضايا في النيران، من فضل الأستاذ أنيس منصور علي المسرحيين المصريين أنه قدم لهم اثنين من أخطر كتاب المسرح السويسريين في العصر الحديث هما دورينمات وماكس فريش، لقد قابلت ماكس فريش عندما كان في زيارة إلي القاهرة منذ ربع قرن وكانت سهرة جميلة، قلت له: لديك مشهد ساحر يا سيدي لا يفارق خيالي، فرد علي ، نعم أعرفه.. إنه مشهد حرق ملفات القضايا، لقد جاءت علي لحظات أحسست فيها أن الانضباط في سويسرا يمنع أي تقدم، فنبهت إلي ذلك بهذه المسرحية.. الفأس. أنا شخصيا أعتقد أن الملل يلعب في حياة البشر دورا أكثر أهمية مما نظن، لذلك علي التغيير أن يكون واعيا بالهدف منه وإلا تحول إلي جريمة، لابد أن نعرف بالضبط الهدف الذي نرغب في الوصول إليه بعملية التغيير، علينا أن نعرف الهدف بكل وضوح ، وأن نكون علي وعي بالطريق الذي يقودنا إليه.