الحرية ياسانشو، أروع ما وهبته السماء إلى الإنسان، لاتوازيها كنوز البر ولا ماتخفى البحار ولاجلها يمكن ويجب ان يغامر المرء بحياته، على العكس منها فان أسوأ مايصيب الانسان هو الآسر، أقول هذا ياسانشو لانك رأيت جيد الرغد والوفرة التى كانت لنا فى القلعة التى غادرناها، بدا لى اننى محشور فى ضائقات الجوع، فلواجبات التعويض عن المنافع والنعم المتلقاة قيود لاتسمح للنفس بالتجلى الحر، سعيد ياسانشو من منحته السماء قطعه خبز بعيدا عن واجب الامتنان لآخر غير السماء. إلى هنا انتهى حديث دون كيشوت عن الحرية، والتى ربطها بضائقات الجوع بل ورآها قيدا للتجلى الحر، دون كيشوت هو بطل أحد أهم وأضخم روايات العالم واكثرها حجما للكاتب الاسبانى المتدفق «ثربانتس» وقد عولجت مسرحيا فى اكثر من تناول لقد قيل عنها «ان كل مايهم الانسان موجود فى دون كيشوت» انها تحمل حماقة عصر بأكمله أظهره تناقض بطل مملوء بالنبل لم يكن ليناسب هذا العصر، انه عمل يحمل مفارقة بين رجل يرى الواقع جديا ويأخذه على محمل الجد وبين هذه البراءة وحسن النية التى يحلمها وبين هذا العهر الذى يحمله هذا العصر. دون كيشوت أداء هزلى لرجل انغمس فى الفروسية فى عصر مزيف يحكمه جيل عملاق من المتعجرفين والوقحين والسفلة، بدأ الامر سلسا، غرق الرجل لاعوام فى قراءات متواصلة، امتلأ عقله بكل تلك الكتب عن السحر والحب والعواصف والمعارك وغيرها من المعرفة لكن المعرفة فى عصر دون كيشوت لم تكن تعنى الا الجنون فقد كانت زائدة عن الحاجة فى هذا الزمن الردىء أو كما قالت شقيقة تشيكوف كإجادة لغة أجنبية فى بلاد لاتجيد لغتها الاصلية، خرج الرجل من بعد عزلته مع الكتب والمعرفة ليجد ان الزمن سبقه غدرا وتغير قبحا، مضى فى رحلة طويلة بين مواقف متعددة عكست مجتمعا فاسدا رُد فى نهايتها محطما إلى حظيرة الواقع متهما بالجنون والشطط، ولكن هل كان دون كيشوت مجنونا أم فارسا وحكيما خانه الحظ لانه لم يكن يحارب فقط طواحين الهواء لكنه كان يحارب طوابير خامسة من الدواب والماشية الانسانية مقنعة ومتصنعة، ولنلق نظرة على نصائحه لنعرف انه كان بعيدا عن الجنون فمن نصائحه، عليك ان تضع نصب عينيك من أنت حتى تنجو من نفخ نفسك كالضفدع، والدم يورث والفضيلة تكتسب فتمسك بالفضيلة ، فالفضيلة تساوى فى ذاتها مالايساويه الدم، لاتترك المزاج يقودك فهو يلعب دورا كبيرا عند الجهلة الذين يتباهون بحدة الذكاء، إذا حملت زوجتك فعلمها وهذبها وخلصها من طبيعتها الخشنة، لتلقى دموع الفقير شفقة لديك، وبين وعود الغنى وعطاياه تكتشف الحقيقة، قس زكاءك بنبض مايساوى منصبك فامنح، امش الهوينى وتكلم بوقار لكن ليس بطريقة تبدو فيها وكأنك تصغى إلى نفسك، الرحمة والعدالة صنوان وعصا العدالة لاتلوى إلا بثقل الرحمة واذا حكمت قضية لعدوك فابعد عن فكرك الإهانة واذا ما جاءتك امرأة تطلب العدالة فابعد عينيك عن دموعها واذنيك عن سمعها وفكر بالحكم على ماتطلبه، لاتمض رخو الهيئة فالثياب غير المرتبة دليل على نفس مهملة إلا إذا كانت لعلة كيوليوس قيصر. فمن ذا الذى قد تأمل نصائح الرجل هذه ولا يعتبره شخصا سليم العقل وراجحه؟ رغم ذلك فليس مهما لدون كيشوت ألا يكون مفهوما فمع مرور الزمن سيكون خالدا لرجل لم يفهم زمانه ولم يفهمه زمانه، دون كيشوت معركة مع الزمن للبحث عن الحرية فى كوميديا بليغة ساخرة وراقية تكشف وجها رقيقا وشجاعا ينتصر للقيم لكنه يهزم أمام قبح الواقع وامراض العصر، وعلى كل حال اذا اصطدم الابريق بالصخرة أو الصخرة بالابريق فالخاسر فى النهاية هو الابريق، لذا سقط دون كيشوت مصطدما بصخرة الزمن، كالفخار تفتت الرجل، لأنه سقط فى خطأ الاعتقاد بوجود فرسان جوالين لهذا الزمان يحمون الحرية والفرد. ان دون كيشوت سيموت من حزن رؤية نفسه مهزوما وحبيسا لذا حينما أوشكت حريته على التقلص والزوال، تمدد فى سريره وأغمض عينيه وبقى يغمى عليه بين الحين والآخر، صحيح أن البيت اضطرب ورغم ذلك كانت ابنة الاخت تأكل والخادمة تشرب وحتى سانتشو يسر، فموضوع الارث الذى يخلفه الميت يخفف ويمحو من الألم فى ذاكرة الوريث. رقد دون كيشوت بعظامه المتعبة وجسده الرميم فى سفر أخير إلى فضاءالحرية عبر الموت الباب الاوسع للحرية، أروع ما وهبته السماء.