كلما امتدت بي تجربة الهجرة، استقر في وعيي نوع من المعرفة التي لا أسعي إليها قاصدة مثل غبار خفيف يكاد لا يري بالعين المجردة، يحيط بالحياة، ينتج عنها تارة، وتارة أخري يخفي تحت غلالته الرقيقة عملها الدؤوب. تبدأ هذه المعرفة من نقطة مجهولة وترسخ رغم ضحالتها في حيز الوجود اليومي، تتشعب وتتغلغل وتستقر. لكنها معرفة تصل الغريب بدار الغربة، تفتح نوافذ ومسالك ودروباً ينفذ منها ليتصل بالعالم، يجد مكانا في ظلها (مهما بدت المعرفة زائدة) يسمح له بأن يقول إنه "ينتمي" لهذه الديار. أثارت وفاة النقابي الكيبيكي ميشيل شارتران في نفسي تلك الأفكار وتعجبت أن تكون لي به صلة علي أي نحو ممكن، وإذا بهذه الصلة تنشأ وتتأكد عبر المعرفة. لم تحتفظ ذاكرتي باسمه، وكل ما تذكرته حين سمعت بوفاته منذ أيام هو المسلسل التليفزيوني الذي أنتجته عنه قناة راديو كندا وقام بتمثيل دوره ممثل شهير هو لوك بيكار. لكني لم أتابع المسلسل عند عرضه والقليل الذي شاهدته منه لم يجذب انتباهي. ما عدا ذلك، لم أنتبه كثيرا للاسم ولا لتاريخ الكفاح الذي ارتبط بهذا الاسم... حتي شاهدت بالأمس فيلما تسجيليا عنه إنتاج عام 1991 وإخراج ابنه آلان شارتران، نفس مخرج المسلسل التليفزيوني. توقف الفيلم عند أهم المحطات في حياة شارتران النقابية، وربطها بأهم الأحداث التي عرفتها مقاطعة كيبيك في الأربعينيات وحتي نهاية السبعينيات، وخاصة أحداث الإضراب المتكررة في المصانع والمناجم ونشأة حركة نقابية قوية في كيبيك ضد الملاك والرأسماليين الأنجلوساكسونيين ومحاولات الانفصال عن كندا والاستفتاءات التي تتابعت لدفع الشعب الكيبيكي لهذا الاختيار الصعب وفشلها علي التوالي منذ السبعينيات وحتي وقت قريب في الحصول علي أصوات الأغلبية. ميشيل شارتران توفي عن عمر يناهز الثالثة والتسعين في مونتريال، بعد صراع قصير مع سرطان الكلي. ولد عام 1916 لأبوين فقيرين أنجبا أربعة عشر طفلا وكان هو الطفل الثالث عشر. تعلم في مدرسة بريبوف اليسوعية (الجيزويت) وعمل شماسا في دير أوكا (زرت هذا الدير وأقمت فيه ثلاثة أيام، لا أتكلم مع أحد فجميع من في الدير كانوا صائمين عن الكلام والتليفون ممنوع...عندما جاء زوجي لاصطحابي إلي البيت كنت سعيدة لمجرد تبادل كلمة ازيك، عامل ايه). قضي في الدير عامين من عام 1933 1935 وانخرط في صفوف الشبيبة الكاثوليكية والقومية الانفصالية بعد أن قرأ بيان تأسيس أقاليم أمريكا الشمالية البريطاني وهو البيان الذي ينكر الوجود الفرانكوفوني والهوية الكيبيكية التي يدافع عن وجودها الانفصاليون من مقاطعة كيبك. تزوج عام 1940 من سيمون مونيه علي يد قس شهير وأستاذ للتاريخ بجامعة مونتريال، ليونيل جروو (سميت علي اسمه مباني كلية الآداب بالجامعة، وكنت قد درست فيها لمدة خمس سنوات للحصول علي الدكتوراه دون أن أهتم بمعرفة من هو ليونيل جروو الذي سميت مباني الكلية علي اسمه). في عام 1941 طرد ميشيل شارتران من الجيش لأنه رفض ملء استمارات التقديم المكتوبة بالإنجليزية، لغة المستعمر البريطاني من وجهة نظر الانفصاليين الكيبيكيين الفرانكوفونيين، وظل طوال حياته مدافعا عن حق الكيبيكيين في اختيار اللغة الفرنسية اللغة الوحيدة لمقاطعتهم. عمل شارتران رئيسا لمجلس النقابات الوطنية في مونتريال لسنوات طويلة وكان الاتحاد الوطني يضم آنذاك ستين ألف عضو، وأسس في بداية الستينيات الحزب الاشتراكي الكيبيكي، ثم سجن عقب أحداث أكتوبر 1970 التي شهدت أعمال عنف ضد رجال الحكومة الفيدرالية في مقاطعة كيبيك أعقبها نزول الدبابات الكندية إلي الشوارع وفرض الأحكام العرفية. استخدم ملكة الخطابة التي ميزته ومنحته كاريزما يحسده عليها أعتي السياسيين لتحريك الجموع آلافا مؤلفة حتي أصبح أعداؤه يخشونه لفصاحته وصراحته. ظل هدفه الأول والأخير الدفاع عن حقوق العمال، في كل مكان في العالم، من داخل النقابات ومن خارجها، في كواليس السياسة وعلي هامشها. كان يقول عن نفسه إنه متشائم فكريا متفائل عن عمد، والناس هنا في كيبيك يحترمونه لتفاؤله وعزمه وصلابته في مواجهة الاستغلال ودفاعه المستميت عن الفقراء (الذي يستمد قوته من الوازع المسيحي ومن الإيمان الاشتراكي معا). ضمن الصور التي عرضها الفيلم، صورة لشارتران مع ياسر عرفات. علق عليها قائلا: إنه التقي بياسر عرفات في الستينيات، أثناء جولة لممثلين نقابيين من كيبيك بنظرائهم في مصر وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان. هناك علاقات وثيقة بين الحركة الانفصالية في كيبيك وحركة التحرير الفلسطينية، فقد كان المناضلون هنا يعتبرون حركات التحرير في العالم نموذجا لما يجب أن تكون عليه حركة التحرير في كيبيك، ضد الأنظمة الاستعمارية من ناحية وضد القوي الرأسمالية (الأمريكية تحديدا) من ناحية أخري. وكان هذا الغليان الدولي يستخدم في معظم الأحيان مفردات اليسار، سواء الاشتراكي أو الماركسي، ويهاجَم ويتم تخوينه بسبب هذا الخطاب الثوري. لم يختلف خطاب شارتران عن هذا الخطاب العام، ولكن الفرق أن شارتران ظل مخلصا له حتي وفاته علي عكس كثير من الحركات الانفصالية والنضالية التي تخلت عن خطاب اليسار الثوري لصالح خطابات سلطوية أخري. في كيبيك علي سبيل المثال، هناك تعاطف حقيقي مع القضية الفلسطينية يكشف عن نفسه في الأزمات الكبري، لكنه تعاطف مقموع تراجع منذ عقود عن منطق الثورة واكتفي بالمهادنة والدفاع الديبلوماسي عن الحقوق الرئيسية للشعب الفلسطيني. كان شارتران أحد المؤسسين للجنة التضامن كيبيك - فلسطين ولجنة كيبيك - شيلي في إطار اتحاد النقابات في كيبيك. في خضم المقالات والدراسات والأفلام التي حكت عن شارتران، انخطف قلبي وهو يقول إنه زار مصر وإنه التقي "بناس من بلادنا"... وفكرت أني مثله بمعني من المعاني، ليس فقط في اختيار يسار القلب، ولكن في البحث الدائم عن بناة الجسور.