هناك مجتمع عراقي يقاوم التبعية. كان تحقيق اللائحة"العراقية" برئاسة الدكتور اياد علاوي تلك النتيجة الطيبة في الانتخابات الأخيرة دليلا علي وجود رغبة لدي العراقيين في العيش معا ورفض اي تدخلات خارجية في شئون العراق، خصوصا التدخلات الإيرانية. تقدمت "العراقية" علي كل اللوائح الأخري بفارق بسيط من الأصوات كان كافيا لتأكيد أن العراقيين علي استعداد للتصدي للغرائز المذهبية وكل انواع التطرف متي توافرت ظروف معينة. علي رأس الظروف المطلوب توافرها شخص قيادي يجسد الروح الوطنية، شخص يجمع ولا يفرق، شخص لا يميز بين عراقي وآخر بسبب دينه أو طائفته أو مذهبه أو قوميته أو المنطقة التي ينتمي اليها. لا يعني ذلك ان الدكتور علاوي سيكون رئيس الوزراء المقبل في العراق. المسألة معقدة اكثر من ذلك بكثير خصوصا في ظل التدخلات الخارجية التي تحول دون الذهاب الي النهاية في اللعبة الديمقراطية التي تعني قبل كل شيء احترام اصول معينة بما في ذلك ما ينص عليه الدستور. المهم ان هناك نواة لنظام ديمقراطي في العراق. هل في الإمكان الرهان علي هذه النواة؟ وحدها الأسابيع والأشهر المقبلة ستظهر ما اذا كان الوضع العراقي سيتقدم في اتجاه مزيد من الاستقرار ام ان الانتخابات التي جرت في السابع من - مارس الماضي لم تكن سوي خطوة علي طريق مزيد من التشرذم والانفلات للغرائز المذهبية. ستظهر الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة ايضا ما اذا كان العامل الوحيد الذي يحول دون حرب اهلية مكشوفة في العراق هو الوجود العسكري الأمريكي. صحيح ان هذا الوجود لم يعد ظاهرا كما كانت الحال في السنوات القليلة الماضية، لكنّ الصحيح ايضا ان الأمريكيين ما زالوا يتحكمون بالوضع الأمني نظرا الي ان قواتهم تسيطر علي المفاصل الاستراتيجية في البلد فضلا عن انها قادرة علي منع اي احتكاك بين ميليشيا تابعة لهذا الحزب المذهبي أو ذاك ومسلحين ينتمون الي طائفة معينة أو قومية معينة. اكثر من ذلك، يبدو الأمريكيون قادرين، الي اشعار آخر، علي منع اي عملية تطهير عرقي تستهدف احياء أو مناطق معينة في بغداد وغير بغداد. ولكن ما الذي سيحصل بعد الانسحاب الأمريكي؟ علي الرغم من تشاؤم كثيرين بمستقبل الوضع العراقي، جاءت الانتخابات الأخيرة بما حملته من نتائج وكأنها رسالة فحواها ان الوضع ليس ميئوسا منه وان ثمة ما يدعو الي الرهان علي امكان ايجاد صيغة وطنية تجمع بين العراقيين. ولذلك كانت مفاجأة الانتخابات كبيرة نظرا الي ان الكتلة "العراقية" ضمت شخصيات من كل الفئات والطبقات والمذاهب والطوائف والقوميات. كان العراق والولاء له ما يجمع بين هذه الشخصيات. وهذا ما يفسّر المحاولات المستميتة لأبطال نيابة فائزين ينتمون الي "العراقية" بحجة انهم بعثيون. في حال النجاح في ذلك، سيكون طبيعيا ان تفقد "العراقية" تقدمها وألا يعود اسم اياد علاوي مطروحا لموقع رئيس الوزراء. يبدو مسموحا استخدام كل الوسائل لمنع اياد علاوي من ان يكون رئيسا للوزراء. لم يخف الرجل ان هناك حملة إيرانية عليه. يشير ذلك الي ان محاولاته التي استهدفت فتح قنوات مع طهران قبل اسابيع عدة من موعد الانتخابات لم تؤد الي النتائج المرجوة. كلفت اتصالات علاوي بالإيرانيين وارساله مبعوثين الي طهران انشقاق بعض حلفائه عنه. بين هؤلاء السيد اياد جمال الدين رجل الدين الشيعي صاحب الآراء الطليعية التي لا تتفق بأي شكل مع اراء رجال الدين التقليديين. كان جمال الدين عضوا في مجلس النواب السابق وكان حليفا لاياد علاوي وكان معروفا بمواقفه المعادية للسياسة الإيرانية وعارض حتي الزيارة التي قام بها علاوي للمرجع الشيعي آية الله السيستاني المقيم في النجف. لم يحل ذلك دون متابعة علاوي انفتاحه علي كل الجهات معتقدا انه سيكون في استطاعته تجاوز الفيتو الإيراني الذي ليس معروفا بعد هل هو نهائي ام لا؟ الامل ليس مقطوعا نهائيا من امكان وصول اياد علاوي الي رئاسة الحكومة. صار بلوغه الموقع مرتبطا بحسابات ذات طابع اقليمي ودولي. بكلام اوضح، هل يكون اسمه موضع اخذ ورد بين واشنطنوطهران، وهو امر مستبعد جدا، أو بين طهران واطراف عربية، أو بين طهران وانقرة؟ في النهاية، لا شك ان لدي النظام الإيراني اوراقه الكثيرة في العراق، خصوصا في الجنوب الذي يسيطر عليه بطريقة غير مباشرة. ما لايمكن تجاهله انه الطرف الوحيد الذي انتصر عمليا، اقله الي الآن، نتيجة الحرب الأمريكية التي اسقطت النظام العائلي- البعثي الذي اقامه صدام حسين ومارس من خلاله السلطة بشكل مطلق بين العامين 1979 و2003. كل ما يريد ان يقوله العراقيون الآن عبر دعم الكتلة "العراقية" ان بلدهم قادر علي ان يخرج منتصرا من الحرب وان ليس ضروريا ان يكون المستفيد منها الأمريكي أو الأوروبي أو الإيراني... أو طرفاً خارجياً ما، ايا يكن هذا الطرف. العراقيون هم الذين عانوا من نظام صدّام حسين. من حروبه الداخلية والخارجية. من طريقة تعامله مع افراد الشعب العراقي ومراجعه الدينية والمدنية ومن دخوله في حرب مع إيران ومغامرته المجنونة في الكويت وحملاته غير المبررة والحاقدة علي الأكراد. من حق العراقيين اعتبار الانتخابات خطوة علي طريق استعادة بلدهم عافيته. لقد اظهروا، من خلال الانتخابات، ان هناك ما يجمع بينهم وان الرابطة الوطنية موجودة وانها تتجاوز الولاء المذهبي. السؤال الي اي حد سيتابعون مقاومتهم، الي اي حد يبدون قادرين علي رفض كل ما من شأنه اظهارهم في مظهر من يحتاج دائما الي رعاية خارجية، رعاية ايرانية تحديدا، كي لا ينقض حزب مسلح علي حزب آخر.. أو مذهب علي مذهب آخر؟