الإصرار علي تسويق فكرة التغيير في مصر عبر تعديل المادة 76 من الدستور كبداية أساسية ووحيدة يعني وببساطة أن من يتبنون هذا التصور يعانون من قصور شديد في فهم المعني الحقيقي لمبدأ تداول السلطة، ذلك أنهم دأبوا منذ لحظة إجراء التعديلات الدستورية في عام 2005 علي تشكيل جمعيات وجبهات قصرت دعواتها علي تغيير هذه المادة لفتح الباب علي مصراعيه دون رابط أو ضابط للمرشحين المستقلين لمقعد الرئاسة. وتجاهلوا عن عمد - ولا أريد القول عن جهل - أن مبدأ تداول السلطة لا يتحقق إلا بين قوي سياسية تعكس مصالح اجتماعية واقتصادية مختلفة، وتعبر عن هذه القوي أحزاب وكيانات سياسية يحمل كل منها مرجعيته الفكرية والاجتماعية فيما يتضاءل نشاط المستقلين خاصة إذا تعلق الأمر بانتخابات الرئاسة وهو الحاصل فعلياً في معظم التجارب الديمقراطية بعالمنا المعاصر، ذلك أن هذا المنصب الرفيع يحتاج لبرنامج انتخابي مؤسسي لا برنامج يعبر عن وجهة نظر فرد واحد، وإن كان من المقبول زيادة نسبية في حجم المستقلين عندما يتعلق الأمر بانتخابات برلمانية أو محلية. ومن هنا يبدو تركيز جمعية البرادعي علي تعديل المادة 76 رغبة محمومة لتكريس ظاهرة المستقلين التي إن قويت تقضي تماماً علي مبدأ تداول السلطة، كما نعرفه من أدبيات علوم السياسة، ويصبح البرادعي ومنسق حملته أستاذ العلوم السياسية د. حسن نافعة في موقع من يريد وضع مفاهيم ومبادئ غريبة أقل ما توصف به أنها مجرد "افتكاسات" سياسية. وبعيداً عن البرادعي ومشجعيه لابد أن تعمل الأحزاب السياسية المعارضة علي تقوية ذاتها وهياكلها الداخلية، وتطوير برامجها كي تستطيع الاستفادة أولاً من المناخ السياسي العام الذي يشهد حراكاً منذ عام 2005 ، وثانياً من القواعد الدستورية والمبادئ القانونية التي أسست لوجودها، بل نظمت عملية دخولها في التنافس للوصول إلي السلطة. وإذا كان النظام السياسي في مصر قد ارتضي لنفسه حسبما أري مسار الليبرالية بما تحمله من معاني التعددية وتداول السلطة أولاً بتخلي الدولة عن امتلاك أدوات الاقتصاد، وثانياً بجملة الإصلاحات السياسية التي أرست دستورياً قواعد التداول عبر المادة 76 التي جعلت انتقال السلطة من حزب لحزب أمراً واقعياً، إلا أن ذلك الواقع يقتضي تحقيق مجموعة من الاشتراطات والالتزامات التي ينبغي أن تأخذ بها المكونات الرئيسية للنظام السياسي وفي مقدمتها الأحزاب السياسية. فقد بدا أن التزام النظام السياسي باتخاذ خطوات فاعلة نحو مسار الليبرالية وتداول السلطة قابله شبه غياب تام لتلك الالتزامات والاشتراطات، فبينما دأب الخطاب العام للأحزاب المعارضة علي المناداة بتناوب السلطة مع الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، كرست لوائحها الداخلية وأداءها الحزبي، علاوة علي بنيتها الهيكلية، لاستبداد قياداتها بالقرار السياسي، بل للبقاء علي رءوس أحزابهم قدر استطاعتهم إضافة لإهمالها تجديد البنية القاعدية لأعضائها، فضلاً عن إهمال برامج التدريب والتثقيف السياسي لكوادرها، وهو ما أثر علي مصداقية المطالبة بمبدأ تداول السلطة طبقاً لقاعدة فاقد الشيء لا يعطيه. إلي ذلك عجزت برامج معظم تلك الأحزاب عن الاستجابة لمطالبات الواقع المحلي والإقليمي والدولي التي تتجدد بمرور السنين، حيث بقيت لا تراوح أيديولوجيتها الأساسية التي صيغت بناء عليها لحظة تأسيسها مع ملاحظة أن معظم الأحزاب المعارضة الكبيرة منها علي الأقل قد تبنت مرجعيات يسارية وأعني هنا حزبي التجمع والناصري ذلك أن برنامج كليهما يرتكز إلي أيديولوجية وتجربة ماضوية. ويكفي استمرار حديث هذا التيار عن اقتصاد الدولة، الأمر الذي يشكل إيمانهم الحقيقي بالليبرالية السياسية التي تشترط الليبرالية الاقتصادية، وحتي الآن يفتقد هذا التيار معالجة موضوعية وواقعية لهذا التناقض الأساسي، وقد يكون من المناسب الآن الاجتهاد في تقديم تصور معاصر يضمن حماية الاقتصاد الحر ورأس المال الخاص حالة وصول مثل هذه الأحزاب إلي رأس السلطة. يشار في هذا السياق إلي أن الأحزاب ذات التوجه الليبرالي قد نشأ معظمها الصغير منها والكبير بعد عام 2000 باستثناء حزب الوفد. وتشترك هذه الأحزاب مع غيرها من ذات التوجه اليساري في امتلاك لوائح داخلية تكرس لاستبداد رئيس الحزب، ولعله من الضروري أيضاً أن تراجع كل الأحزاب لوائحها الداخلية التي تنظم هياكلها وبناها التنظيمية. أيضاً ذهبت معظم هذه الأحزاب في معارضتها لاتفاقية "كامب ديفيد" إلي حد المطالبة بضرورة الغائها. وهو ما يعني بالضرورة وضع البلد في احتمالات الدخول في حرب، ورأيي أن البرنامج الحزبي الذي يريد مصر دولة ديمقراطية لابد وأن يقر بالسلام والتعايش السلمي كمبدأ أساسي في العلاقات الدولية ذلك أن النظم الديمقراطية وحدها من يعترف بالسلام كمدخل لاستقرار الشعوب وتنميتها، وكمدخل لحل أي نزاع أو صراع حيث تحكمها في الأساس مصلحة شعوبها لإدراكها أن صوت الديمقراطية والتنمية يعلو دائماً علي صوت المعركة، وفي المقابل النظم الاستبدادية والشمولية وحدها من تناقض السلام وترفع صوت المعركة علي كل الأولويات الوطنية. إلي جانب ذلك كله عانت غالبية أحزاب المعارضة من صراعات داخلية كان بعضها دموياً أدت إلي شروخ عميقة عملت علي إقصاء قدر لابأس به من كوادرها وقياداتها الفاعلة. وقد أدي كل ذلك وغيره إلي ضعف جماهيريتها وهو ما جعلها منافساً غير متكافئ سواء في الانتخابات البرلمانية والمحلية أو في أول انتخابات رئاسية شهدتها نهاية عام 2005. إن المعركة الأساسية للأحزاب تكمن في التنافس في الوصول إلي السلطة وفي المقابل إذا سأل سائل عن موقع الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم من كل ذلك فيكفي أن أقول إنه الحزب الذي أقرت أغلبيته البرلمانية خطوات تحرير الاقتصاد بما تعنيه من خلق فضاءات سياسية جديدة ومنافسة تعبر عن مصالح القطاع الخاص بل وتصويتها لصالح القوانين والتعديلات الدستورية الواسعة التي رسخت للتجربة الحزبية والتعددية السياسية، بل إن زعيمه ورئيس الجمهورية هو من ارسي دستورياً قاعدة انتخاب رئيس الجمهورية بين أكثر من مرشح رئاسي..وعلي أية حالة فإن كان الحزب الوطني بحاجة إلي مزيد من الإصلاح الداخلي كان ذلك يتأتي وفقط في سياق مناخ سياسي قائم علي التنافسية الحقيقية التي تدفع الجميع إلي المزيد من الإصلاح والتطوير، ولعل اجتماع ائتلاف الأحزاب الأربعة الكبار مؤخراً يكون بداية حقيقية لها في سبيل إصلاح الذات والسعي نحو جماهيرية أكثر. وللحديث بقية