عندما سُئلت السيدة عائشة (رضي الله عنها) عن خلق الرسول الكريم وعمله قالت " كان(صلي الله عليه وسلم) خلقه القرآن"، وما أجمل هذا التوصيف، وما أكثر دلالاته.. فقد أشارت السيدة عائشة إلي أن الرسول لم يكن مفكراً نظرياً، ولم يكن صاحب أقوال مرسلة دون تطبيق، ولكنه كان تجسيداً لكل ما يقول، ونموذجاً عملياً لكل ما يدعو إليه، وصورة حقيقية لما يحب أن يكون الناس عليه، كان قرآنا يمشي علي الأرض. لم يكن صلي الله عليه وسلم يفعل ما ينهانا عنه ، ولم ينه الناس عن فعل من أفعاله إلا تيسيراً عليهم ورحمة بهم.. ومن هنا كان تأثيره قوياً، وكان إقناعه شديداً، وكان إعجاب الناس به وإيمانهم بدعوته مستمراً ومتواصلاً إلي يوم الدين .. وعندما ذهب الإمام محمد عبده إلي فرنسا في مطلع القرن العشرين ، قال "لقد وجدت في فرنسا إسلاماً بلا مسلمين ، ووجدت في ديارنا مسلمين بلا إسلام !" ، في إشارة إلي أن التطبيق العملي ، والتجسيد الفعلي للإسلام غائب عن المسلمين في بلادنا ، فنحن مسلمون اسماً فقط ، ونحن مسلمون بحكم بيانات الرقم القومي ، أما أفعالنا ومعاملاتنا فهي أبعد ما يكون عن ذلك .(كلام الهداة المرسلين كلامنا.. وأفعال أهل الجاهلية نفعل) .. ومن هنا تكون قيمة التجسيد الحي لتعاليم الإسلام ، والتطبيق العملي لتوجهاته. وكان الإمام محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، رحمه الله ، تجسيداً حياً لكل قيم الإسلام ، ولكل الصفات الحميدة.. كان رحمه الله مثالاً للاعتدال ونموذجاً له ، سواء في أفعاله الشخصية ، أو في فتاواه أو في آرائه الدينية .. لم يجنح يوماً إلي التشدد في دين الله ، ولم يكلف الناس ما لا يطيقون .. بل كان باحثاً دوماً عن كل ما يخفف عنهم العنت ، مسترشداً بهدي الرسول "بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا".. لم يجنح الإمام إلي التشدد في وقت أصبح المتشددون نجوم الساحة ومتصدريها .. وفي وقت أصبح التشدد قيمة وفضيلة لدي البعض الذين يزايدون علي دين الله .. بل تمسك بالاعتدال ، بالوسطية كمنهج إسلامي صميم " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً، لتكونوا شهداء علي الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيداً" .. كان الإمام طنطاوي نموذجاً للتسامح دون تهاون ، وللتواضع مع الثقة بالنفس، وللعزة دون جبروت.. وكانت ملامح وجهه الهادئة والمريحة، وصوته الخفيض العميق رسل سلام إلي الآخرين .. كان القبول مفتاحاً يفتح به مغالق النفس البشرية .. وكان رحمه الله قادراً علي التواصل مع الآخرين ، وقادراً علي الاتصال بهم في عفوية وتلقائية نادرة. وكان الإمام طنطاوي، وهو شيخ الأزهر، ورمز الإسلام السني المعتدل، نموذجاً وتجسيداً لمفهوم الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط في مصر .. شارك أقباط مصر كل مناسباتهم وأعيادهم.. وكان صديقاً للبابا شنودة رمز الأقباط في مصر.. ومن هنا كانت كلمات البابا شنودة في نعيه، ووصفه لموته بأنه " خسارة كبيرة، ولا أجد عزاء في فراقه". رحم الله الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي، تجسيداً لكل القيم الإسلامية، ونموذجاً حياً للاعتدال، وللوسطية، وللتخفيف علي الناس، وللتيسير علي الخلق .. رحمه الله .