رَعَفَ أنفي نزيفَ الوقت، فرفعتُ رأسي إلي السماء، النجم البعيد الثاقب، وروحي في الظلام. ليل أسود فيه كل الأبقار سوداء. الهَيولاني المنسوب إلي الهَيولي لا يزال في البداية، مادة تُصنع منها الأشياء، كالخشب للكرسي. نصف كيلو مِشَكِّل من مسمط حلوان الوحيد لغداء أحمد وجه القتيل، وما تنْسَاش الكرابيك. عم صالح ماسح الأحذية في فيلم عفاريت الأسفلت يقول للأسطي سيد في استعارةٍ عن أحوال الدنيا السيئة: أيام أسود من كوع النمس. في أيام المخرج أندريه تاركوفسكي الأخيرة، لا شيء سوي بارتيتات وكنتاتات يوهان سبيستيان باخ، عاطفة متي في فيلم القربان. سقف حمَّام غرفة كارل روسمان ابن أخت السيناتور جيكوب في رواية أمريكا لفرانز كافكا، عبارة عن مصفاة مياه بتربيعة السقف كله، وليستْ هناك إشارة من كافكا عن عري الحمَّام من أي شيء آخر. إن لمسة الرفاهية التي يضع كافكا بطله كارل روسمان تحت مظلتها، غريبة ومُنعشة في آن، ولو توقَّف كافكا عندها قليلاً، لانحرفتْ الرفاهية إلي شيء آخر، فلو وصف لنا نوع أرضية الحمَّام، وطريقة تصريف المياه، وشبكة المواسير، ونوع الحوائط ودهانها، أهي من زجاج، أم من إسمنت؟ ونوع الدهان، هل هو دهان عازل؟ لانحرفتْ الرفاهية إلي أداة التعذيب في مستعمرة العقاب. قال بلوم بطل جويس، في سجل أدبيات محافظة حلوان، لستيفن ديدالوس، وهو يعرض عليه صورة زوجته البريمادونا مولي، وهي في البالطو الشموازيه النبيتي، محبْرَكَة ومشبْرَكَة: أقل ما فيها حتة من الأبدية، تاخد فكرة؟ تحتوي أيضاً غرفة كارل روسمان ابن أخت السيناتور جيكوب في رواية أمريكا علي مكتبٍ، بمئة درج، وبأحجام مختلفة، وهناك مُنظِّم، بمقبض في أحد جوانب المكتب، يمكن عن طريقه إعادة ترتيب الأدراج، والتحكم في سرعة ظهور مجموعة منها واختفائها تبعاً لقوة الضغط علي مقبض المُنظِّم. وهنا أيضاً كافكا قريب من آلة التعذيب في مستعمرة العقاب. قطع الممثل الكوميديان الإنجليزي روان أتكنسون القيم علي مراسم زواج برنارد وليديا في فيلم أربع جوازات وجنازة بغلطة لسانٍ مسافةً لا نهائية بين روح مقدسة قائمة علي ذري جبال الفانتوم تُدبِّر بعسر هضم أرثوذكسي شؤون الإنسانية وبين عنزة رعوية نيتشوية تمرح في السهول خالية البال بمأمأة موسيقية ونأنأة عشب عندما حوَّل holy ghost إلي holy goat. يستعين لودفيك فتجنشتين في بداية كتابه تحقيقات فلسفية بقول القديس أوغسطين من كتاب الاعترافات: كلما كان الكبار من الناس يسمُّون شيئاً ما أو يشيرون إليه ويتجهون نحوه كنتُ ألاحظ وأحفظ عنهم أن ذلك الشيء قد سمّي من خلال تلك الأصوات التي نطقوا بها عندما أشاروا إلي ذلك الشيء وكان ما يقصده الآخرون يظهر لي من خلال حركات أجسامهم وقسمات الوجه وغمز العيون ونبرة الأصوات يعبّرون بها عن حالات النفس التي تخبرنا إن كانوا يبحثون عن شيء أو إن كانوا يملكونه أو ينكرونه أو يتجنّبونه وقد تعلَّمتُ تدريجياً بهذا وبتكرار سماع الألفاظ في مقامها في جمل مختلفة أن أفهم إلي أي حقيقة تشير الألفاظ فاستعملتها بدوري للتعبير عن رغباتي بعد أن مرّنتُ لساني علي النطق بها. اليوم أخذتُ القرار الذي تراجعتُ فيه مراراً وتكراراً، ولأنني أخذتُ هذا القرار علي مدار سبع سنوات سابقة، تسع مرات علي وجه الدقة، فقد فكانت المرة العاشرة، حفظاً لماء الوجه، تحتاج إلي صدق من نوع آخر، طالما غير بعيد أن يكون صدق المرة العاشرة مثل صدق المرات التسع السابقة. يحتاج صدق أخذ القرار في المرة العاشرة إلي تثبيت أركانه في الذاكرة بتعيينات زمانية ومكانية، من نوع اليوم والشهر والسنة، والساعة إذا كانت ليلاً أم نهاراً، وشهود عدول ليسوا في حالتي سوي كرسي ومكتب وقرص مصفاة دوش، وبهذا سيكون النكوص عن تنفيذ القرار فضيحة زمانية ومكانية أمام الذاكرة. القرار يتعلَّق بالتوقُّف عن التفكير في شيء يقع دائماً في منتصف المسافة، علي سبيل المثال، بين الخشب والكرسي، بين عنزة مقدسة وروح مقدسة، بين ليل أسود وبقرة سوداء، بين هيجل وشلنج، بين مكتب بسيط وآخر مُعقَّد بمئة درج، بين اسم والإشارة إليه، بكلمات أخري يجب التوقُّف عن التفكير في شيء ينْجَز دائماً خلف ظهورنا، ولا نعرفه إلا في حضوره اللحظي فقط، مع أن معرفته الحقيقية هي مجموع لحظاته جميعاً، أي مجموع عدد الكراسي التي وُجِدتْ مُضافاً إليها مادة صنعها وصانعها.