طالما كان الشيطان بصورته التقليدية مصبا أخيرا لرحلة خطايا البشر تجاه أنفسهم، حيث تلقي كل لائمة علي عاتق ذلك الكائن المسكين المسمي مجازا بالشيطان، فهو دائما سبب التخلف والفقر والمرض، بل والدافع الأساسي وراء كل جريمة تقترف في حق الإنسانية. وفي سبيل التخلي عن المسئولية شيدت مختلف الأساطير مراجم، ليست لردع الشيطان بقدر ما هي مغسلة لذنوب البشر ذكرتني بهذا الكائن المتخيل الذي ناله من ظلم البشر قدر ما نالهم من ظلم أنفسهم مسرحية قصة التنوير للكاتب المسرحي المتميز محمد السيد عيد، الذي كتبها علي الأرجح في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وقد مثلت في إذاعة البرنامج الثقافي بالصدفة استمعت للمسرحية مؤخرا ودارت أحداثها بين الشيطان الذي كان جالسا علي عرش مملكة الجهل والإظلام في هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها، وبين رموز رحلة التنوير في مصر. كان الشيطان وفقا للرواية قد عُزل من منصبه لما فعله أعلام التنوير بالمصريين، وظن الأحمق -الشيطان- أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كان المسئول الأول والأخير عن التنوير في مصر لما قدمه من إبداع وفكر تجسد في رحلته مع الشك الديكارتي في كتابه الشعر الجاهلي، ورفعه شعار التعليم كالماء والهواء حين كان وزيرا للمعارف. التقي الشيطان المعزول من عرش الجهالة بروح العميد التي جاءت تطوف ربوع مصر لتري كيف أصبح مسار التنوير بعد وفاته، وعلي الفور قرر الانتقام منه. وفي جمل حوارية راقية تألق في إبداعها محمد السيد عيد، راح يسرد الشيطان مبرراته للانتقام من روح طه حسين الذي طفق يسرد قصة التنوير في مصر ليؤكد لملك الجهالة أنه ليس الحلقة الأولي ولا الأخيرة في مسار التنوير مستدعيا روح رفاعة الطهطاوي الذي حكي بدوره دور محمد علي باشا في تحديث مصر لتأتي روح الأخير شاهدة علي أن شيوخ الأزهر بدأوا رحلة التنوير بثورتهم علي حكم المماليك والعثمانيين قبل الحملة الفرنسية التي حضرت روح قائدها نابليون لتشرح كيف جاءت الحملة مصطحبة مجموعة من العلماء والفنانين في شتي العلوم والفنون إضافة للمطبعة والذين نبه دورهم التنويري الباشا محمد علي لضرورة الانفتاح علي الآخر. وهكذا أخذت أرواح أعلام التنوير تتوالي علي خشبة المسرح لتشارك طه حسين في سرد قصة التنوير من علي مبارك إلي الخديو إسماعيل إلي أحمد أمين وعباس العقاد. احتار الشيطان وتأكد من جهله بالمسئول الحقيقي عن رحلة تحديث مصر وتنويرها، واحتار في أمره هل ينتقم من الجميع أم يصبح هو ذاته طالبا للتنوير لصعوبة تحقيق انتقامه. أغلب الظن أن شيطان محمد السيد عيد قد اختار طلب التنوير متنازلا عن غايته في العودة إلي عرشه ملكا للجهالة والإظلام.. دفعتني مسرحية قصة التنوير إلي تأمل الإشكاليات التي واجهت رموز التنوير وأعلامه علي الأقل في القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن الماضي، واعتقادي أنها كثيرة ومتعددة وقد تضمنتها أبحاث ودراسات أكثر تعمقا من هذا المقال. لكن أتصور أن أهم ما واجه مسار التنوير في تلك الفترة هو انتشار الجهل أو بالأحري أمية القراءة والكتابة وهو ما حاول الطهطاوي تجاوزه بمشروعه الرائد بنشر المدارس في معظم ربوع مصر وهي نفس محاولة علي مبارك. أما الإشكالية الثانية فكانت في تلك الأفكار النمطية والثقافة التقليدية المحافظة. ومع ذلك نجح رواد التنوير في أن تجد أفكارهم مكانا في المجتمع المصري بمختلف مؤسساته آنذاك سواءً لدي الحكام أو النخبة الثقافية التي تشكلت وبدأت في الظهور مع بدايات القرن العشرين وهي النخبة التي قادت ثورة 1919 وولدت من رحمها فكرة إنشاء الجامعات الأهلية والأحزاب السياسية بمختلف مشاربها. نسيت أن أذكر أن عقدة شيطان الجهالة عند محمد السيد عيد كانت من شيوخ الأزهر المؤسسة التقليدية الذين سافروا إلي فرنسا وعادوا ليبدأوا رحلة نضالهم نحو تنوير مصر. وهذا ما يعني أن هؤلاء الأعلام قد نجحوا في تفنيد التراث ونقد كل ما هو تقليدي في الثقافة والسياسة دون أن يخشوا غضبة مؤسسة الأزهر بيتهم الأول وحاضنة التراث بمخزونه الثقافي التقليدي. وشهدت مصر في النصف الأول من القرن العشرين حيوية فكرية صاحبها جدل سياسي ساخن بين الأحزاب والقوي السياسية التي تشكلت لتعبر عن توجهات فكرية وسياسية بعضها محلي وبعضها الآخر وارد من الخارج، فيما يصفه البعض بنوع من الليبرالية السياسية ولن أتوقف عند هذه النقطة لما حولها من جدل بسبب الوضع السياسي الملتبس بين القصر والأحزاب والاحتلال البريطاني، لكن تلك الحيوية وعلي أي حال كانت تجسد استجابة مصر لما يدور حولها في العالم وتفاعلها داخليا بأمواج متلاطمة لأفكار شديدة التباين، كل ذلك كان برغم الأمية وقوة التقاليد. انتهي ذلك العصر بتحرك الضباط الأحرار ليعلنوا ثورة 23 يوليو التي جاءت رافعة شعار التعليم المجاني، والثورة علي ما أسموه بالعصر الرجعي، بل والثورة علي كل الأفكار التقيدية والمحافظة وجاءت بإصلاح زراعي أعاد توزيع ملكية الأراضي بما كان يتوقع معه من الناحية النظرية علي الأقل اتساع الطبقة المتوسطة لكن لجوء الرئيس جمال عبدالناصر لتأميم كل مقدرات البلد أدي في تصوري إلي اتساع طبقة البيروقراطية التي كان عمادها الرئيسي فئة الموظفين. علي الجانب الآخر كان من المفترض أيضا أن يمضي مسار التنوير في طريقه بخطي أسرع، ذلك أن عائق الأمية قد بدا يتراجع، علاوة علي إعلان الثورة علي المرجعية والتقاليد المحافظة كما أشرت.. لكن نظرية التأميم في حد ذاتها فعلت في رأيي الذي يحتمل الخطأ ما عجز عنه شيطان محمد السيد عيد. فتأميم الاقتصاد والسياسة يقود مباشرة لتأميم الفكر، ونظرة عابرة لمعظم الأفلام السينمائية والمسرحيات التي أنتجت خلال الستينيات كانت موجهة لبرنامج الضباط الأحرار فيما غابت الأفكار المغايرة، ناهيك عن غياب شبه تام لمعارك فكرية حقيقية تحرك المياه الراكدة في العقول. وما قد يجدر ذكره في هذا السياق أن معظم من أبدعوا في تلك الحقبة كانوا في حقيقة الأمر نتاج المنظومة الثقافية والتعليمية التي سبقتها في العشرينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وبحساب عددي لا أكثر يقل عدد من سلكوا مسار التنوير ممن كانوا نتاج منظومة التأميم في حقبة الستينيات، بل إن معظم من سلكوا هذا المسار وما زالوا يعيشون بيننا كانوا أيضا نتاج منظومة ما قبل التأميم مع بعض الاستثناءات. مضت حقبة الستينيات بما لها وما عليها لكن من الموضوعية الإشارة إلي أن نشوء ما أسميه بمنظومة التأميم قد ارتبط بالاستجابة بعوامل دولية وإقليمية وداخلية تحتم آليات البحث القياس علي أساسها لفهم التجربة. وإذا كانت تلك الحقبة من تاريخ مصر قد انتهت بوفاة الرئيس عبدالناصر لندخل حقبة جديدة مع الرئيس السادات نشطت خلالها تنويعات الإسلام السياسي، لتقابلها عودة نشاط التيار الماركسي وظهور أيديولوجية جديدة تعبر عن أفكار عبدالناصر، فيما عرف بالتيار القومي العروبي أو الناصرية. وإذا كان من المفهوم تصارع تلك الأيديولوجيات فيما بينها من ناحية وبينها وبين نظام الرئيس السادات من ناحية أخري بسبب الأحداث الكبري التي شهدها ذلك العقد السبعيني قبيل نصر أكتوبر 1973 مرورا بإطلاق المنابر السياسية وانتهاءً بإعلان الأحزاب السياسية بما في ذلك زيارة السادات للقدس وما نتج عنها من توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام، إلا أن ذلك التصارع خلافي جوهره من أي معارك ثقافية وفكرية ذلك أنه قصد ذاته -أي الصراع- علي الجانب السياسي وانطلقت التجربة الحزبية المصرية لتنتهي اليوم ب24 حزبًا سياسيا، وفي المقابل أضحي مسار التنوير يواجه عوائق أشد وأقوي من تلك التي واجهها طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فبعد أن كان التراث محلا للنقاش والتفنيد والنقد صار أيديولوجية في حد ذاته، ولا أعني هنا فقط التراث المرتبط بالسلفية الدينية وإنما أيضًا بما قد أسميه بالسلفية الفكرية، فلايزال الشيوعيون يقدسون التراث الماركسي وشروحاته، رغم فشل الفكرة مع سقوط الاتحاد السوفيتي، ولايزال الناصريون قابضين علي الميثاق رغم تجاوز الزمن للتجربة الناصرية بظروفها. وها هم الإخوان المسلمون ما زالوا يستدعون أثر السلف بحلوه ومره دون نقاش أو جدال. الكل ما زال قابضًا علي أيديولوجيته كما القابض علي الجمر ليلعبوا جميعًا دور الشيطان المتربع علي عرش الجهالة والإظلام ويكفي أنهم ما زالوا يستخدمون نفس العبارات القديمة التي دخلت متحف التاريخ مثل الإمبريالية واشتراكية الدولة والحاكمية وغيرها ليقفوا سدًا منيعًا أمام مسار التنوير. وفي قراءة لقوائم مستخدمي الإنترنت تكشف عن أن المتعلمين يستخدمون هذه التكنولوجيا إما في البحث عن شعارات قديمة وترديدها، وإما للبحث عن مواقع لتعليم كيفية صناعة قنابل الإرهاب، أو في أحسن الأحوال اللهث وراء المواقع الإباحية رغم أن هذه التكنولوجيا تقود بطبيعتها إلي مزيد من الانفتاح والحداثة. وفي مقابل شيوخ الأزهر الذين سافروا إلي فرنسا للحاق بركب التنوير ظهر من لهثوا وراء ذلك الغرب ولكن للحاق بركب التمويل الأجنبي من أجل النضال السياسي وها هي اتهامات التمويل والعمالة والاستعانة بالخارج لتغير منظومة الحكم تتلاحق بين السياسيين والمعارضين سواء في تشكيلات حزبية أو أخري غير شرعية ربما كان آخرها ذلك التلاسن بين ما سمي بحركة 6 ابريل وكفاية وحزب الجبهة لتحل مثل هذه المعارك محل معارك فكرية من أجل التنوير. ومع ذلك ما يزال هناك من يمتلك القدرة علي كبح جماح هؤلاء الشياطين من المفكرين المثقفين والمؤمنين بحق بأهمية التنوير لصالح هذا البلد وخير شاهد علي ذلك انتصار التنويريين في معركة نقابة الصحفيين الأخيرة التي وقف فيها الناصريون والإخوان المسلمون والشيوعيون مطالبين بالتغيير من أجل الديمقراطية، ولأن عجلة الزمن تتحرك دائمًا إلي الأمام فلابد وأن هذه الشياطين ستعزل عن عروشها لأنهم وببساطة يطالبون بتعددية سياسية فيما بعضهم ما يزال يطالب باشتراكية الدولة والآخر يطالب بخلافة مقنعة. فيما الليبرالية السياسية لا تتحقق إلا باقتصاد حر، وفكرة ديمقراطية لا تستدعي احتكار صكوك الغفران الإلهي.