لم أغب عن معرض الكتاب منذ انعقاده الأول عام 1968 إلا مرة واحدة، في ذلك الوقت كنت في الإسكندرية، قطعت تذكرة قطار درجة ثالثة ذهابا وعودة وأخذت قطار السادسة صباحاً من الإسكندرية ووصلت القاهرة في التاسعة، كان القطار كما هو الآن نوافذه محطمة لكن ركابه قليلون يمكن أن يدفئهم الحديث بينهم ولم يكن يتعطل أو معرض للتعطيل. وصلت معرض الكتاب الذي شغلت مكانه الأوبرا الآن ولا أعرف لماذا خيل لي أنني سأقابل الدكتورة سهير القلماوي رئيس هيئة الكتاب ذلك الوقت واستاذة الأدب المرموقة وطبعا لم أقابلها، لم أكن نشرت شيئا ولا يعرفني الكتاب القاهريون ولا أنا أعرفهم وأمضيت اليوم كله في المعرض اشتري بالسبعة جنيهات التي معي والتي كانت تكفي لشراء ثلاثين كتابا، آخر النهار والمعرض يعلن في الميكروفون أنه سيغلق أبوابه ويطلب من الحضور الانصراف وقعت عيني علي رواية "القضية" لفرانز كافكا، كانت فرحتي بها كبيرة لأني كنت قرأت عن كافكا مقالا رائعا للدكتور طه حسين في كتابه "ألوان" نسيت الكتب التي اشتريتها وكانت في أغلبها روايات واعتبرت نفسي فائزا بالذهب حين أمسكت برواية كافكا التي ترجمها الدكتور مصطفي ماهر المترجم والمثقف العظيم، عدت الي الإسكندرية فرحان أتباهي علي زملائي من الكتاب السكندريين الذين كنا نجتمع معاً في قصر ثقافة الحرية، أتباهي عليهم بأن معي رواية القضية لكافكا ولم أعرها لأحد منهم، لم تنقطع زيارتي للمعرض بعد ذلك كل عام لكن ظلت ذكرياتي عن رواية كافكا لا تبارحني حتي أتيت وعشت في القاهرة وسكنت في شقق مفروشة في أكثر من مكان ومن ثم كل ما كنت اشتريه من المعرض كان معرضا للضياع إذ يستعيره أصدقائي ولايعيدونه أبدا وكأني صرت أدفع الثمن لحجبي رواية كافكا عن أصدقاء الاسكندرية، كان لابد أن يكون لي بيت لا أسكن فيه مع أحد ففعلت كما فعل غيري وتوكلت علي الله إلي المملكة السعودية لمدة عام واحد وعدت واستأجرت شقة وكونت مكتبتي من جديد وصارت نسبة الفاقد في الكتب أقل حتي يناير عام 1985 حين دهمت البيت قوة من البوليس وأمن الدولة قبل المعرض بأيام لأننا كنا نقاطع وجود اسرائيل في المعرض كل عام منذ معاهدة كامب ديفيد، في ذلك الوقت كنت قررت التخلص من كتب كثيرة ضاقت بها المكتبة وقرأتها وطبعاتها غير مشجعة لأجد مكانا لما أشتريه من كتب جديدة ووضعت الكتب التي قررت التخلص منها في بعض الكراتين في البلكونة لأعطيها فيما بعد للبواب يبيعها وينتفع بثمنها، وجدها الضابط الذي كان في الحقيقة مؤدباً جداً وهو يفتش البيت واعتبر نفسه محظوظاً فكتب في البلكونة يمكن أن يكون فيها ما يساعد علي أي قضية محتملة أجل لابد أنها مهمة، وكانت القضايا الدائمة للمثقفين ذلك الوقت هي الشيوعية وعليه أمر المخبرين بحمل الكتب كلها إلي السيارة وكنت أنا سعيداً جداً بذلك، لقد تخلصت من الكتب التي لا أريدها بسهولة وصعب عليا البواب فقررت أن أعطيه مما رزقني الله إذا خرجت بسهولة، وجهت له تهمة الانتماء إلي تنظيم تروتسكي لأنه كان لدي كتاب اسحق دويتشر الشهير عن تروتسكي ولم يكن هذا الكتاب طبعا بين الكتب المهملة التي لابد لم يجدوا منها نفعا وخرجت بعد عشرين يوما بإفراج نيابة وخرج زملائي بعد شهر بإفراج من المحكمة، هذا هو المعرض الوحيد الذي لم أحضره، لكننا لم نغب عنه، وانطلقت المظاهرات في المعرض تطالب بالافراج عنا وكتبت الصحف العربية والاجنبية عنا الكثير خاصة أنه كان معنا شاب اسباني اعتبر في قرار الاتهام مندوبنا لدي التنظيم الشيوعي العالمي، الدولية الثالثة. سرعان ما أفرج عنه بعد يومين وغادر إلي إسبانيا بلا رجعة وهو من أصدقائي الذين اكتشفوني أخيراً علي الفيس بوك، وكان مصوراً فوتوغرافيا رائعا يعمل في الاذاعة الموجهة ويجلس معنا علي مقهي البستان ولا شيء آخر. بعد ذلك صرت أحد المنظمين لنشاط المقهي الثقافي لعشر سنوات بعد أن بدأ المرحوم الدكتور سمير سرحان سياسة الندوات والأمسيات، ولا أذكر الآن الندوات المهمة بقدر ما أذكر غضب المثقفين الذين لاتشملهم الندوات والمتابعات الصحفية التي تتكرر بعينها عن الجديد في المعرض ولماذا حضر فلان ولماذا منع فلان وهل منع حقا والكتب الممنوعة وغير الممنوعة وهل للندوات معني أو فائدة ومن بين هذه الندوات التي كانت ذات معني المواجهة الفكرية التي جرت في سرايا الاستثمار بين المرحومين فرج فودة والشيخ محمد الغزالي وكيف كانت الشوارع حول السرايا مفروشة بالجماعات الإسلامية وكيف انتصر فرج فودة وقتل بعد ذلك بأيام، كما كانت محاضرة الاستاذ هيكل تلقي الزحام نفسه، كان المرحوم سمير سرحان يري في ذلك هايد بارك وشيئا يضاف للنظام ولكن يبدو أنه توسع أكثر مما ينبغي رحمه الله. منذ عام 1999 لم يعد لي نشاط أو عمل في المعرض، مللت واكتفيت بالمشاركة البسيطة في ندوة أو اثنتين ثم أقلعت تقريبا تماما حتي أنني هذا العام طلبت من الصديق حلمي النمنم نائب رئيس هيئة الكتاب ألا يضعوني في أي ندوة ولقد حدث إلا ندوة فوجئت بها الهيئة في الجناح الروسي حدد المشاركون فيها من هناك، لكني لاحظت منذ عامين أو ثلاثة انتشار ظاهرة توقيع الكتب التي كانت بالفعل غائبة عن المعرض علي طول تاريخه، لم تكن من ثقافة نشر الكتاب في مصر بعد وفي هذا العام عشرات من حفلات التوقيع وفي العام الفائت وهو أمر طيب بلا شك وهكذا تقريبا صار ذهابي قليلا إلا للتوقيع علي كتبي، يسألني الصحفيون الشباب لماذا لاتشارك في الندوات ولا يصدق أحد إلا بصعوبة أنني صرت زاهداً فيها ثم إنها لم تعد تضيف جديداً إلي وهي بلا شك أفيد للكتاب الشباب تماما كما لم أعد أنشر في المجلات الادبية المتخصصة وأترك المجال لمن هم في حاجة إلي ذلك من الشباب وأنشر ما أريد في الصحف اليومية، ومنذ أعوام أضيفت للمعرض أبعاد أمنية لا أجد نفسي قادراً علي احتمالها ولقد كتبت هنا منتقداً ذلك العام الماضي، لكن حقيقة ازدياد رواد المعرض هي التي تظل مدهشة وجميلة وحقيقة ازدياد المبيعات، أما أسعار الكتب فأتخيل لو أن شابا امتلك في الاسكندرية سبعة جنيهات وأراد أن يأتي كما أتيت أنا أول مرة فلن تكفيه ثمنا للقطار أما إذا تعلق فوقه وأتي فلن يشتري بها كتاباً، وإذا ضربت السبعة في عشرة فسيصل إلي القاهرة لكن لن يشتري كتبا أيضا وسيعود كما جاء.