نعم ما حدث في أنجولا من إنجازات لمنتخبنا القومي، ليس فقط في حصوله علي كأس الأمم الأفريقية للمرة الثالثة علي التوالي، والسابعة في تاريخ هذه المسابقة - وإنما في كل مبارياته، والتي لم تتوج فقط بالحصول علي الكأس - وإنما أيضاً لحصول العديد من لاعبيه علي كأس أحسن لاعب، وأحسن حارس مرمي، وأحسن خلق رياضي، وأحسن لاعب بديل، وهداف البطولة، وغيرها من الألقاب - نقول: نعم إن كل هذه الإنجازات إنما هي ترجمة عملية وحقيقية لثوابت ومقومات الشخصية المصرية الأصيلة، التي عاشت معها وبها عبر العصور والقرون، ومن خلالها استطاعت أن تكون مصر أم الدنيا ومعلمة البشرية، وصانعة التاريخ والحضارة، وبهذه الثوابت استطاعت أن تستوعب كل الحضارات، والحفاظ علي شخصيتها وهويتها، بل والتغلب علي ثقافات المغامرين والمستعمرين، التي تعرضت لها مصر عبر تاريخها الطويل، وغيرها من عشرات الصفات التي وصفت وتوصف بها هذه الشخصية، وعشرات الإنجازات التي تحققت عبر العصور والقرون، وكان وراء كل هذه ثوابت ومقومات الشخصية المصرية الأصيلة. ومعاً نحاول القاء الضوء علي بعض هذه الثوابت، ومدي انعكاسها علي إنجازات المنتخب الكروي المصري في أنجولا، والدروس المستفادة من هذا الحدث العظيم.. ويأتي في مقدمة هذه الثوابت: 1- امتلاك قوة الإرادة، العزم والتصميم، وتوحد الكل، وبذل أقصي جهد، وتحقيق النصر في مواجهة الأزمات والتحديات، وهذا الثابت المصري يعد من أهم ثوابت الهوية والشخصية المصرية، ويشهد التاريخ المصري القديم منه، والحديث المعاصر ترجمة حقيقية لهذا الثابت المصري، وقد تكفي الإشارة إلي ما حدث بعد هزيمة 1967، وما ترتب عليها من أحداث وتداعيات يطول شرحها، وقيام العدو ببناء خط بارليف، وما قيل يومها من أن العبور للضفة الشرقية من قناة السويس هو بكل المعايير عملية محالة، ولكن حدث ما لم يكن يتوقعه الأصدقاء قبل الأعداء، وحدثت المعجزة وهو وليس غيره العبور، والانتصار العظيم في أكتوبر المجيد. والآن يؤكد منتخبنا هذا الثابت في أنجولا، فلقد كان أمام تحد كبير وخطير، بسبب خروجه من اللعب في كأس العالم، علي يد منتخب الجزائر، ومن ثم كان يشكل الفوز علي هذا المنتخب نوعاً من رد الاعتبار، وقد حدث بالفعل بفوز منتخبنا علي منتخب الجزائر وبنتيجة ساحقة، كما توج هذا الفوز بالحصول علي الكأس تأكيداً للثابت المصري، وهو ضرورة مواجهة التحدي، وتحقيق الفوز أو النصر، وهذا الثابت هو ما تغنت به مصر علي لسان شاعر النيل حافظ إبراهيم، في رائعته مصر تتحدث عن نفسها حيث تغنت علي لسانه مباهية بشعبها وأبنائها وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي نعم ولقد تحقق هذا في أنجولا، ومن حقها أن تغني الآن وكفاني منتخبي الكلام عند التحدي. وهذا هو الدرس الذي ينبغي علينا أن نستلهمه الآن في ظل ما نعانيه من أزمات، وعلي كل المستويات، وفي كل الجبهات والمجالات. بل وصل بعضها حد الكوارث. نقول علينا أن نستلهم هذا الثابت المصري، وهي القدرة علي مواجهة التحديات والتغلب علي كل المشكلات والأزمات. علينا بذل الجهد، وأن تكون الاستجابات والحلول علي مستوي هذه التحديات. ساعتها وعندما نعلن ساعة التحدي ومواجهته، ستلتف الجموع، وتتحرك كل الإمكانيات والقدرات للتغلب علي التحديات وتحقيق الإنجازات فهل يستوعب الكسالي والمحبطون ومن يتولون أمورنا هذا الدرس الذي عبر عنه منتخبنا في أنجولا؟ هل يفيق الراقدون تحت الثري، ويعملون علي توظيف هذا الثابت المصري في انتشالنا مما نعيشه من أزمات وكوارث؟ نأمل هذا، بل ويجب علينا استلهام هذا الدرس في كل أعمالنا. 2- وثاني هذه الثوابت: السماحة والتحضر في التعامل مع الآخر، فمعروف عن الشخصية المصرية أنها السمحة المتحضرة في التعامل مع الآخر، وهذا ما عكسه المنتخب الكروي في أنجولا، حتي مع لاعبي البلد العربي الشقيق الجزائر، الذين لعبوا أو قل لعبوا علي أجسام وأقدام لاعبينا وكانت محصلة هذا طرد ثلاثة لاعبين منهم. في حين لعب أولادنا بكل الروح الرياضية، واستحقوا أن يحصلوا علي كأس هذه الروح. كما استحقوا الإشادة بهم من مختلف المحللين والرياضيين، ومن وسائل الإعلام الأجنبية علي وجه الخصوص. وما أحوجنا الآن إلي استلهام هذا الثابت المصري السماحة وروح التحضر في التعامل مع الآخرين أياً كان هؤلاء الآخرون، في العمل، في الشارع، في المعتقد والدين، فمصر السماحة والوسطية والاعتدال، وهذا ما ينبغي أن يستوعبه الكل، فلا عنف ولا كراهية، وليس فقط بين أبناء الوطن الواحد، وإنما مع الإنسان مهما كان معتقده أو جنسيته، ولعل هذا هو المعروف عن الشعب المصري بين الأجانب والسائحين، حيث دوماً يرددون في مصر نشعر بالدفء والمحبة. ولعل هذا الدرس الذي ينبغي أن يستوعبه دعاة الفتن الطائفية التي ابتلينا بها في عصر الجمود والتخلف. 3- ونصل إلي ثالث الثوابت وهو وليس غيره عمق الولاء والانتماء لهذه الأرض، لمصر، التي - وعلي حد تعبير رأس الكنيسة القبطية البابا شنودة - تعيش فينا قبل أن نعيش فيها. إنه الولاء والانتماء الذي يحركنا فعلاً، قبل أن يكون قولاً. وهذا الثابت عكسه وبدقة منتخبنا القومي في أنجولا، وبسببه كان الفوز والانتصار والحصول علي الكأس، وهو يعطي لنا الدرس في ضرورة العمل علي تعميق هذا الولاء والانتماء من خلال الالتفات حول المشاريع القومية، التي يلتفت حولها الشعب علي اختلاف وأعماره، ومن خلال تحقيق العدل في كل المجالات وعلي كل المستويات. كما أنه درس لولاة أمورنا ورجال أعمالنا في ضرورة توظيف قراراتهم وأعمالهم من أجل مصر وشعب مصر كترجمة حقيقية لولائهم وانتمائهم لمصر، من ناحية، وليشعر هذا الشعب بالعدل فيتعمق الولاء والانتماء. 4- أما رابع الثوابت فيتمثل في حنكة الشعب المصري ووعيه وذكائه وادراكه الغث من السمين، وبالتالي الثقافة حول من يعمل لمصر، ورفعة شأنها، وغضبه ضد كل العابثين والمفسدين والأفاقين، وهذا ما استطاع المنتخب تحقيقه، حيث كان يعمل لرفع اسم مصر عالياً، فالتف الناس جميعاً حوله. وهذا هو الدرس الذي ينبغي أن يستوعبه كل العابثين بمقدرات هذا الوطن، وفي القلب منهم الفاسدون والمفسدون في كل الميادين والمجالات. فالشعب المصري وإن كان يتميز بالصبر والقدرة علي التحمل فإن للصبر حدوداً. ولابد للقيد أن ينكسر، ولليل أن ينجلي. هذا هو شعب مصر عبر التاريخ. 5- ويأتي ثابت التدين من أهم ما تتميز به الشخصية المصرية، ولقد تجلي هذا وبوضوح في سلوكيات وأخلاقيات المنتخب القومي. وهنا لابد أن نشير إلي بعض الأمور دون أخذ في الاعتبار أدني حساسيات، منها: ما يطلق علي منتخبنا بأنه منتخب الساجدين، حيث يري البعض أن هذا الوصف يمكن أن يضفي علي الرياضة بعداً دينياً، أو بعبارة أخري قد يضفي عليه مسحة إسلامية، ونري أن هذا يشكل تعسفاً في تفسير هذا السلوك الديني، لأن الأمر الملحوظ بين معظم لاعبي العالم علي اختلاف أديانهم - وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة عند احراز الأهداف أو الحصول علي لقب كروي - أنهم يعبرون عن شكرهم لله، كل منهم حسب شعائره الدينية، ومن ثم نقول لكل من يحاول الصيد في الماء العكر، وتوظيف هذا السلوك في إثارة الفتن الطائفية خسئت وهيهات هيهات أن يكون هذا بين لاعبي مصر علي وجه الخصوص. - الأمر الآخر، هو خلو المنتخب القومي، ومعظم الأندية من وجود لاعبين مصريين قبط. وهو أمر وبالتأكيد غير مقصود، لأننا لا نتوقع وجود لاعب مصري قبطي لديه المهارات الكروية أو بإمكانه أن يكون لاعباً كروياً ويتم استبعاده. ومع ذلك نري ضرورة تشجيع أبنائنا من المصريين القبط الاندماج في الأندية، وعلي هذه الأندية أن تشجعهم وتكتشف المهرة منهم للعب. لأن مصر لكل المصريين. 6- وهذا ينقلنا إلي ثابت سادس، وهو عروبة مصر ولقد ترجمه المنتخب في حسن تعامله مع الأشقاء الجزائريين، وعلينا أن نأخذ من هذا درساً عربياً مهما وهو اغلاق ملف الجزائر، والوقوف بجوارهم في كأس العالم، والبعد عن اضفاء السياسة علي الرياضة، بل أن الرياضة قادرة علي تصحيح أخطاء السياسة. إلي آخر الثوابت الأصيلة للشخصية المصرية، والتي استطاع منتخبنا أن يترجمها علي أرض الواقع في أنجولا، ويبقي علينا استلهام الدروس والعبر من هذه الترجمة الحقيقية في مواجهة ما نعانيه من أزمات وما نواجهه من تحديات. مما يدفعنا إلي القول: إن المنتخب لم يحقق لنا فقط السعادة والفرحة، وإنما أيضاً ضرب لنا الدرس العملي في كيفية مواجهة التحديات، وكفي بهذا درساً يضربه لنا منتخبنا القومي الذي يعد في المحصلة صناعة مصرية خالصة جهازاً فنياً ، ولاعبين، أداء وروحاً. وإلي المزيدمن النجاحات، ومواجهة التحديات، وتهنئة لمصر التاريخ والحضارة ولشعبها العظمي.