من الذي أحرق القاهرة في السادس والعشرين من يناير سنة 1952؟!. بعد ما يزيد عن نصف قرن من الكارثة تبدو الإجابة الحاسمة غائبة مراوغة، فما أكثر المتهمين من أصحاب المصلحة في صناعة الفوضي، وما أصعب الإشارة إلي جهة بعينها لتتحمل مسئولية الجريمة. في الشهور السابقة للحريق، كان الاحتقان والتوتر يزيد كل يوم، ووصل الأمر إلي ذروته عندما أعلن رئيس الوزراء مصطفي النحاس إلغاء معاهدة سنة 1936، وتقرر سجن العمالة المصرية من المعسكرات الإنجليزية في منطقة القنال، فقد ترتب علي ذلك دفع الآلاف من القوي الثائرة الساخطة المتذمرة إلي شارع يعاني من الغليان والضيق منذ البدء. الملك فاروق، والإنجليز والأمريكيون، والإخوان المسلمون والشيوعيون، وأحمد حسين بشعاراته التحريضية؛ كل هؤلاء نالوا نصيبهم من الاتهام، لكن التحليل الموضوعي المتزن لا يقود إلي يقين، ولعل الدرس الوحيد المستفاد هو ضرورة تجنب أن تتعرض العاصمة لحادث مماثل. ولأن معظم النار من مستصغر الشرر، فإن مفهوم "الفوضي الخلاقة" الذي بشرت به السيدة كونداليزا رايس، وهلل له، قولا وفعلاً، دراويش مصريون، بمثابة التهيئة الموضوعية لحريق مماثل، فعندما تندلع الحرائق الصغيرة في أماكن شتي، لا توجد ضمانات للانتشار والسريان لالتهام كل شيء. شهدت مصر أزهي عصور الحرية والديمقراطية قبل الحريق، في ظل الحكومة الوفدية الأخيرة، لكن هذا المناخ ليس مسئولاً أو متهما، فالأزمة الحقيقية تكمن فيمن يستثمرون الأجواء الصحية لنشر المرض. ومن يتأمل دعاة الحرية ورافعي الشعارات الديمقراطية اليوم، لن يجد عناء في الكشف عن تبنيهم لأفكار شمولية وتسلطية في أعماقهم، فهم يراهنون علي ديمقراطية تقود إلي الديكتاتورية. العاصمة رمز الوطن، واحتراقها يعني تهديدًا للأمن والنظام، وبداية للفوضي والعبث، فليت أن المراهقين من دعاة الدمار يتعلمون ويتعظون.. لكنهم لا يفعلون!