كتب : لبيب حليم السبت رغم أن زوجة ابني وحفيدي فارقا الحياة، فأنا مازلت أري هبة، وأسمع صوتها، وأشاهد جورج وأسمع أنفاسه، مازالت ضحكاته ترن في أذني، وأتساءل كيف يموت الناس؟ هل يموتون عندما يختفون عن عيوننا؟ أم عندما يتحولون إلي أشباح؟ وأنا لم أدخل هذه التجربة بعد.. اليوم رأيت هبة وجورج في حديقة مملوءة بأشجار وأزهار، ورأيت هبة أكثر جمالا مما كانت، وشاهدت جورج أكثر سعادة، وأحسست بالاطمئنان، تأكدت أن هبة وجورج لم يفارقا الحياة، إنهما في رحلة قصيرة، وغداً سألحق بهما! الأحد قالوا إنه أسد الكنيسة القبطية، وأنه رجلها الحديدي، وأن الرحمة لا تعرف إلي قلبه سبيلا! وشاءت الأقدار أن أدخل عرين هذا الأسد، فوجدت الأنبا بيشوي قديسا توافرت فيه الحكمة والبساطة وعفة اللسان، أسدا جهورا في قول الحق، محاربا قويا لكل بدعة وهرطقة، نيافة الأنبا بيشوي: كل سنة وقداستك بكل خير. الاثنين إن إيماني بالله يزداد يوما بعد يوم.. وفي كل يوم أري حولي ما يقوي إيماني، رأيت الخير الساذج يصرع الشر الذكي رأيت المظلوم الصغير ينتصر علي ظالم جبار، رأيت عصا الصادق وهي تكسر السيوف، رأيت الأنبا أرميا يواجه عشرات الاتهامات رأيت الله وهو ينصفه ورأيت الله، وهو ينتقم من الظالم، نيافة الأنبا ارميا: - كل سنة وأنت قادر علي نسيان إساءة الناس، كل سنة وأنت قادر علي اكتساب حب اعدائك، كل سنة والسماء تبارك كل خطوة من خطواتك، كل سنة ونيافتك بكل خير. الثلاثاء جلس بجواري قاض كبير وأخذ يردد انجازاته في العمل القضائي، وحكي لنا عن المتاعب التي لاقاها من جراء قيامه بكل كبيرة وصغيرة في أعمال المجلس الملي العام، فهو الذي أجري التعديلات التي ادخلت علي لائحة 8391 وهو الذي أعد مشروع تعديل لائحة ترشيح وانتخاب البابا، وعدد لنا العيوب التي اعتورت هذه اللائحة، وكيف استطاع أن يجعل المشروع الجديد مطابقا لتقاليد الكنيسة وقوانينها. واعترضته قائلا: إن الخديو إسماعيل حين أنشأ المجلس الملي العام كهيئة موازية للكنيسة كان قد انتهز فرصة الضعف المؤقت للهيئة الدينية بسبب خلو الكرسي البابوي، واليوم باتت الكنيسة قوية، فكنيستنا تسلمت تعاليمها من القديس مرقس الذي أخذ التعليم من الرب رأسا وهي تسير علي هذا التعليم، هذه الكنيسة فوض لها الرب سلطة سنا الشرائع، والمجمع المقدس وحده هو الذي يملك سن القوانين وإصدار اللوائح، وتساءلت إلي متي ستكونون صداعا في رأس الكنيسة؟ وتمر الأيام: وتموت زوجة ابني، ويجيء الرجل ليقدم واجب العزاء، وكعادته جلس يردد انجازاته وقلت: أنا مازلت عند رأيي فالمجلس الملي بات بلا اختصاص، وزالت الظروف التي دعت إلي إنشائه، وأقف لأودع المعزين، وأشاهد هنا القاضي يلقي برأسه علي كتف زميل لنا ويقول: حتي الموت لم يكسره! ولم اتفوه ببنت شفة، لم أقل له إنه لا شماتة في الموت، إنما وقفت بأدب لأدوعه تاركا أمره إلي خالقه. ومنذ أيام شاهدت هذا القاضي في احتفال كبير أقامته الكاتدرائية المرقسية وهو يعلن علي الملأ أنه لم يفكر وكل زملائه من أعضاء المجلس الملي في تعديل لائحة ترشيح وانتخاب البابا التي جاءت مطابقة لأحكام القانون وابتسمت: لم أقل له أنت منافق، وإنما قلت في نفسي: نعم إن الحاجة ذلت اعناق الرجال!. الأربعاء قالت لي إنها ولدت في بيت يقدس الولد، وبدأت في طفولتها تقص شعرها كالأولاد، ترتدي البنطلون، وتتسلق الأشجار.. وتتشاجر كما يتشاجرون.. ولما بدأت أنوثتها تتفتح لاحظت بسعادة كيفية تأثيرها علي الأولاد، وتزوجت في وقت مبكر، ورغم ذلك استمرت في هواية اجتذاب الرجال والاستمتاع بتقربهم منها والنوم في أحضانهم. وعرف الزوج الحقيقة فطلقها، وباتت حرة، تعلمت التدخين، وأجادت لغة العيون، وجذبت عشرات الرجال إلي شباكها، وعملت في مجال الإعلانات فعاشات حياتها كما يحلو لها بين أحضان المعلنين وغير المعلنين!. وسألتني ما رأيك؟ قلت وأن أهم واقفا: إن المرأة السوية هي التي تحب رجلا بعينه، أما عشق كل الرجال والتنقل بين أحضانهم إنما هو شذوذ يتطلب تدخل طبيب قبل أن تسوء النتائج وتتفاقم الأخطار!. الخميس كان شادي كثير الحديث عن أخته، يجلس مساء كل ليلة مع صديق له أمين شرطة ويتحدث دائما عن أخته، فهي في نظرة قديسة لا تنقصها إلا هالة من نور، مجنونة.. كثيرة الصراخ لكنها امرأة قوية تقوم دوما بالأعمال الصعبة، لكن في هذه الليلة لم يذهب شادي إلي المقهي، ولم يصطحب صديقه أمين الشرطة ليتباهي أمامه بشخصية أخته وعبقريتها، لكنه جلس في البيت يبحث عنها، إنه بدأ يلاحظ أنها دائما غائبة، وانقضت عدة ساعات ولم تعد أخته، فامتلأ قلبه ضيقا وغضبا، وأخذ الشك يتسلل إلي قلبه، وصرخ نافرا من الصورة التي طالت خياله، حاول أن يبعد الفكرة عن رأسه فليس من حقه أن يسمع كلام الناس.. ليس من حقه أن يظن بأخته بمثل هذه الظنون. وفكر شادي، ثم نهض محموما، انسل من البيت في سرعة، لم يثر ضجة، لم يصفع الباب وراءه في عنف، فقد قرر أن يذهب إلي صديقه أمين الشرطة ليبحثا عنها معا.. ووقف شادي أمام بيت صديقه، شاهدها وهي تنزل من سيارة التاكسي بعد أن جاب بها علي عشرات الشقق.. وظل ينتظر.. ثم دخل بيت صديقه.. وشاهد أخته.. كانت عارية تماماً، كانت ترقد في أحضان صديقه!. الجمعة كانت السيجارة متوهجة في يده وهو يرقد بجوارها، وكعادته سحب أنفاسها الأخيرة في سرعة، وأطفأها لينام. وأخذ ينظر إليها وألم شديد يمزق احشاءه، لقد أحبها كثيرا وانتشلها من حياة الرذيلة.. اصطحبها معه إلي كل دول العالم.. أخذها إلي تايلاند وهناك طلب من فنان كبير أن يرسم لوحة جميلة علي ظهرها وذراعيها بالتاتو.. وطلب أن تذيل هذه الرسوم بالأحرف الأولي من اسمه علي سبيل الذكري. ورفضت أن تكتب الحروف الأولي من اسمه علي ذراعيها، وعادا من تايلاند، وهي الآن راقدة إلي جواره، حاول أن يجد مبررا مقنعا لرفضها، هذا الجسد ليس ملكه وحده، وليس من حقه أن يدون اسمه عليه، إنه جسد مملوك لكل الرجال.. واقتنع برأيه.. ورقد لينام!.