من غرائب السياسة المعاصرة علي الاطلاق ، الحملة المنظمة التي تشنها بعض الدوائر الفلسطينية علي ماتسميه الجدار الفولاذي علي الحدود الدولية بين مصر وبين قطاع غزة في اشارة الي اجراءات ذات طبيعة هندسية تتخذها السلطات المصرية لحماية خط الحدود من الاختراق فوق الأرض وتحتها . أكثر هذه الغرائب غرابة أن يشارك بعض المصريين في تلك الحملة مطالبين بترك حدود بلادهم الدولية عرضة للاختراق بدعوي أن أنفاق التهريب علي الحدود تخفف أثر الحصار علي شعب غزة المسكين متجاهلين خطورة فتح قنوات سرية للتهريب تكتسب شرعية بغض النظر عنها ، علي الأمن القومي المصري ومصالح الشعب المصري . يقولون حرام أن نحرم الشعب في غزة من التهريب ليفك عن نفسه آثار الحصار الاسرائيلي الظالم علي القطاع ، فاذا قلنا ولماذا لا يفك الشعب عن نفسه الحصار كلية فلا يعود بحاجة الي التهريب وفي يد حكامه أن يفعلوا ذلك ، سمعنا كلاما عجبا عن المقاومة والثوابت ، ولم نسمع كلمة واحدة عن مصلحة سكان غزة . عشرات الفلسطينيين ماتوا وما زالوا يموتون تحت أنقاض أنفاق غزة التي حظيت بشهرة واسعة بعد الحصار الاسرائيلي المفروض عليها منذ استولت حركة حماس علي السلطة فيها ، كل يوم يسقط قتيل أو أكثر بسبب اختناق داخل الأنفاق ، او بسبب انهيار حوائطها الترابية ، أو القصف الاسرائيلي المتكرر لها بين الحين والآخر . العاملون بتلك الأنفاق تحت الأرضية يعلمون أن فوقهم نفقًا آخر وأسفل منهم ثالث، وهنا تكمن الأخطار فربما ينهار النفق الأول علي الثاني والثالث فيضيع " مجموعة" من العاملين دفعة واحدة، وربما يسرب النفق الثاني مادة غير معروفة أو وقوداً فيحرق من هم بالأسفل إن حدثت شرارة واحدة . يصل أجر العامل بالنفق إلي 100 دولار أمريكي بالليلة الواحدة، وتتراوح المهام بين الحفر والسحب وتوصيل الكهرباء والماء، ويتقاضي العامل تحت الأرض لمدة عشر ساعات مبلغاً لا يقل عن 50 دولاراً أمريكياً وقد يزيد المبلغ حسب طبيعة المهمة أو يقل حسب عدد ساعات العمل رغم ظروف العمل غير الطبيعية ،حسب ما أوردته تقارير صحفية نقلت عنها تلك المعلومات . في تقرير آخر جاء أن بلدية رفح الفلسطينية توصف بأنها الأغني بين بلديات قطاع غزة ، تتقاضي من أصحاب الأنفاق عشرة آلاف شيكل مقابل تقديم الخدمات اللوجستية من آلات الحفر والسحب حتي آلات إنقاذ العاملين فيما اذا انهار النفق . يحصل أصحاب الأنفاق علي أرباح طائلة من وراء استغلالها بينما يموت فيها الشباب سعيا وراء لقمة العيش في ظل الحصار الخانق ويتقاسم معظم الأرباح حكومة غزة المقالة مع أصحاب الأنفاق ويتركون الفتات والموت مع المخاطر للشباب الغلبان . كل تلك الأرباح والمكاسب ستختفي اذا تم فك الحصار عن القطاع ، وهذا مايفسر الحملة المزدوجة ضد رفع الحصار والدفاع عن التهريب في آن واحد ، فالمصالح المادية والمكاسب المالية لا تزال صاحبة السيطرة والسيادة فوق الأرض في القطاع وتحتها في الأنفاق . الطريق الطبيعي والسهل والمنطقي لانهاء الحصار الذي فرضته اسرائيل علي قطاع غزة هو الغاء مبرراته ، الحصار فرضته اسرائيل علي القطاع بسبب انشقاق حركة حماس علي شرعية السلطة الوطنية الفلسطينية لخلاف بينهما علي أشياء كثيرة . لن أناقش أوجه ذلك الخلاف ولا أسبابه باعتبار ذلك شأنا فلسطينيا ، ربما كانت حماس محقة من وجهة نظر البعض في خلافها مع فتح وربما لا تكون ، المهم هو موقف وتأثير الخلاف علي أطراف أخري من بينها مصر ذات الحدود المشتركة مع قطاع غزة . الضغوط التي تمارسها حماس وأنصارها تستهدف مصر بالدرجة الأولي وتطالبها بفتح حدودها مع قطاع غزة لمساعدة حماس علي المضي قدما في تكريس انفصال غزة عن الضفة الغربية . يعني يطالبون مصر بالانحياز لحركة حماس في صراعها علي السلطة باستخدام شعب غزة رهينة للضغط انسانيا علي الشعب المصري وغيره من المجتمع الانساني . مصر اذا فتحت الحدود بالتعاون مع سلطة غير شرعية ، لغير الدواعي الانسانية ، تكون في الواقع منحازة لها وموافقة علي توجهاتها ، وهذا افتراض غير مقبول فضلا عن أنه غير صحيح ، لماذا ؟ لأن الانفصال بين الضفة وبين غزة ليس في مصلحة القضية الفلسطينية من ناحية ولأنه يضر الأمن القومي المصري من جهة أخري . والاثنان معا يصبان في مصلحة اسرائيل التي تجد في ذلك منفذا للتخلص من مطلب اقامة دولة فلسطينية واحدة عاصمتها القدس ، كما تتخلص من الزامها بحل مشكلة عودة اللاجئين الفلسطينيين عن طريق توطينهم في البلاد المجاورة ومنها شبه جزيرة سيناء . السؤال هنا هو أليس من حق مصر أن تقلق علي أرضها وتسعي الي توجيه الأمور الي الوجهة الصحيحة ؟ الاجابة المنطقية أن ذلك واجب وطني يجب عدم التراخي فيه مهما كانت المبررات التي يسوقها البعض في محاولة لدعم مطالب حركة حماس التي استولت علي الحكم في غزة بانقلاب عسكري . ان وضع اسرائيل كطرف في المعادلة بطريقة خاطئة متعمدة هو في الواقع نوع من الابتزاز المرفوض ، فلا يسوغ وجود اسرائيل كطرف في المعادلة تهاون مصر في حماية حدودها الدولية والتعامل مع عصابات التهريب الدولية والمحلية علي أنها حل لمشكلة سياسية في الأصل يرفض المتسببون فيها حلها ويطالبون غيرهم بما لا يقبلون به لأنفسهم .