من الأسباب التي أراها هامة في بقاء كتب المازني وفي استمرار تأثيرها علي من يطالعونها أول مرة في الطبعة الجديدة التي أصدرتها دار الشروق، أنك عندما تقرأه تجده مشغولا بمخاطبة القارئ والحوار معه أو توجيه جملة اعتراضية له فجأة. وقد تكون هذه الطريقة شائعة عند طه حسين والعقاد لكن الفارق الأساسي الذي يفرق المازني عنهما أنه لا يكون أبدا في موقع الأستاذ المعلم وهو يخاطب أو يلتفت إلي القارئ بل نجده يتشكك فيما يكتبه أو يسخر من الأفكار أو الصفات التي يعرضها ويدفعك إلي الشعور بان هناك جوانب أخري لم يتوصل إليها. وعندما يظهر يقينه بشيء ما أو يقدم خلاصة تجاربه كما في "قصة حياة" فانه يقدمها مشفوعة بتشكك وإظهار أن الأمر قد يكون علي عكس ما يراه. فالحقيقة كما كتب "كزهر النرد لها أكثر من وجه واحد" وهذا ما يكسب كتاباته حيوية فأنت تقرأ المازني وكأنك تسمعه وهو يفكر بصوت مرتفع. لذلك الاستطراد عند المازني ليس عبأ علي النص أو مجرد حشو فاستطراد المازني يكشف عن حريته مع كتابته واسترساله مع ما يظهر له أثناء الكتابة وغالبا ما يكون سبب استطراده رغبته في توسيع مدي سخريته ورغبته في تأمل مشاعر وأحاسيس يصعب اختزالها أو توصيفها في جمل قليلة كما في روايته "إبراهيم الثاني" أو "من النافذة". والمازني حكاء أو سارد حتي في مقالاته النقدية فبقدر ما يعرض رأيه النقدي نجده يعرض كيف كانت حالته وأحواله أثناء كتابة المقال وكيف تطورت انطباعاته أثناء قراءة الكتاب. مما يجعل تلك المقالات أشبه بسيرة فكرية له. وبالنسبة لي فان يحيي حقي خاصة في مقالاته هو من أكمل طريقة المازني وطورها. وقد كتب يحيي حقي مقالة عن المازني في كتابه عطر الأحباب بدأها بمقتطف مما قاله المازني عن نفسه ويكشف عن تخليه عن رسم صورة مبالغ في جديتها لحال الكاتب كما كان يفعل أقرانه في هذا الوقت. وحتي لو كان المازني قد قال كلامه علي سبيل التواضع كما ألمح يحيي حقي لكن تظل كلماته أقرب الي الفضفضة الساخرة عن نفسه وأنه لا يحمل الأمور أكثر مما تحتمل. يقول المازني: "ما أشبهني بأرباب الحرف من أصحاب الدكاكين. إنني أصبح فأجلس في منزلي أمام آلة الكتابة صابرا علي رزقي فمن جاء يسألني مقالا أو قصة توكلت علي الله ودققت له ما يطلب بلا تأجيل ويظل هذا شأني إلي أن تحين ساعة التشطيب". ويرسم يحيي حقي من خلال التشبيهات التي يبرع فيها دائما صورة للمازني ثم يتوقف عند سخريته اللاذعة التي عصفت بكتابات المنفلوطي ويري أن تلك السخرية تعويض عن معاناته من قصر احدي ساقيه منذ طفولته مما أدي الي "مشية منخلعة يكاد شقه كله يهوي عن يمين الي الأرض فوق ساق أقصر من أختها بكثير، كأنما أصيب في جنبه بضربة عنيفة من هراوة ثقيلة قصمت وسطه.. ورأيت المازني يقوم فيضع في قدمه فردة حذاء لها كعب مرتفع يعالج الفرق بينها وبين أختها". وقبل ان يتعرف يحيي يحقي علي كل هذا كان المازني قد حكي له عن البيت المقابل له وكيف يراه مائلا من الشباك بينما يراه معتدلا حينما يتطلع إليه من الطريق.وكيف حاول أن يكشف سر الخدعة لكن البيت ظل علي حاله و"كدت أراه يطلع لي لسانه هزءا بي وبقيت في حيرتي بغير شفاء حتي لاحت مني في الطريق نظرة عابرة إلي المنزل الذي أسكنه فإذا هو المائل علي جنبه".