لم تنته نوبات التوتر بين اللبنانيين والسوريين بعد خروج الجيش السوري من لبنان منذ أربع سنوات بل يمكن أن نقول إنها زادت مما أدي إلي حالة من الاحتقان تعود إلي الظهور وترتفع نبرتها القوية علي الساحة الفنية سواء مع إصدار ألبوم جديد لإحدي المطربات أو إطلاق كليب لأغنية جديدة علي الفضائيات فالكل دائماً يبحث عن التوجهات السياسية وميلها إما إلي المعارضة أو للموالاة وهذا يفرض نوعاً من الحرج علي أي فنان فهو مطالب بأن يحمل فنه للجميع وموقفه السياسي المعارض للوجود السوري في لبنان يجلب له الكثير من العداء كما أن تصنيفه في خانة الموالين لسوريا يجعل الصحافة اللبنانية تفتح حملات الهجوم عليه مع اعتباره أنه ضد حرية لبنان ويضع يده في يد السجان بعيداً عن الشعور بالوطنية وخلف هذه الصورة القاتمة يشتعل الصراع بين إعلام سوري يصر علي استخدام الفنانين اللبنانيين لصالحه وإعلام لبناني يرفع شعار معاً من أجل لبنان لكن الحقيقة تقول أن ما يحدث علي الساحة اللبنانية ما هو إلي نتائج لترسبات قديمة وأمراض مزمنة في طبيعة العلاقات بين البلدين. لعبة الصراع السوري اللبناني علي أنغام فيروز اندلعت بوادر أزمة فنية مغلفة بالتوجهات السياسية بعد أن تطرق مجموعة كبيرة من النقاد اللبنانيين إلي مسألة انفراد الإذاعة السورية ببث ثلاث أغنيات من ألبوم فيروز الجديد في الوقت الذي لم يسمع أحد من لبنان أياً من هذه الأغاني رغم كثرة الإذاعات في لبنان وتساءل البعض. 1- لماذا تكون الإذاعة السورية هي صاحبة الامتياز ولها أولوية السبق؟ 2- وهل هذا يعني فرض الوصاية السورية علي الفن اللبناني بعد أن فشل الجيش السوري في تبرير أسباب تواجده في لبنان. 3- أم أنها محاولة لتنغيص حياة اللبنانيين وتحريك صراعاتهم الداخلية. وعلي الرغم من ظهور مؤيدين ومعارضين لمسألة بث أغنيات فيروز الجديدة عبر إذاعة دمشق إلا أن هناك من حاول أن يسكب الزيت علي النار حيث سرب كلاماً يؤكد أن إذاعة دمشق قد حصلت علي حق بث الألبوم كاملاً عبر أثيرها وأن هذا الموقف جاء كرد للجميل من جانب فيروز تجاه الإذاعة التي اكتشفتها عام 1958 وظلت تساندها حتي الآن فليس هناك مانع من أن تتخلي فيروز عن سبع أغنيات يتضمنها الألبوم لإثبات وفائها واعترافها بالجميل علي أساس أن الإذاعة السورية هي الوحيدة التي تبث أغانيها يوم الأحد من كل أسبوع ويتواصل ذلك من بدء الإرسال إلي نهايته وأن هذه الطقوس الفيروزية قد استمرت طوال 30 عاماً ولا يوجد حرج بالنسبة لها عندما تختار لألبومها الجهة التي تليق به بعد أن رفضت أية محاولات تجارية لاستغلاله. أما الجانب المعارض فيري أن فيروز تواصل طريقها للخروج من الحيز اللبناني وأن استخدام الإذاعة السوريا لأغانيها علي أنها طقس سوري مقدس يهدف إلي تأكيد وصاية سورية علي لبنان لأن البعض يقول معلقاً علي هذه الظاهرة الإعلامية بأنها إذاعة فيروز من دمشق كما تستغل الإذاعة الأغاني التي غنتها فيروز في بدايتها لتحقيق مكاسب سياسية لها في الوقت الحالي مثل أغانيها التي تمجد فيها سوريا مثل سائليني يا شام وقرأت مجدك وكللت بالغار أم بالنار يا شام والتي شدت بها بعد حرب 1973 إلا أن الأغنية التي تستفز اللبنانيين هي التي غنتها فيروز في أيام تواجدها الأولي بدمشق والتي تشدو فيها بنشيد حماسي لسلاح المشاة في الجيش السوري وتقول بعض كلماتها وعند الحدود في ميسلون لنا ذكريات، بطولات جيش تحدي المنون ليبني الحياة، وأحيا علي الأرض عبر القرون شعار المشاة. ويعتمد المعارضون علي موقف فيروز وإصرارها علي عرض مسرحية صح النوم في دمشق رغم الأصوات التي طلبت منها عدم الغناء لسجاني الحرية وكان ذلك قبل عدة سنوات وفي الوقت الذي كان يحاول فيه بعض اللبنانيين فك الارتباط بالنظام السوري ورفض الوصاية السورية . لم تصر فيروز علي الالتزام بالصمت كما كانت تفعل في العقود الأخيرة من مشوارها لأنها نزعت فتيل الأزمة وأكدت أنها لم تمنح حق إصدار الألبوم للإذاعة السورية كما يتردد في لبنان ورغم أنها اطفأت ألسنة النار إلا أن الحساسية الفنية بين السوريين واللبنانيين لاتزال موجودة. صناعة التوتر سوريا تصنف اللبنانيين فئتين فقط.. معارضة وموالاة التوتر علي الساحة الفنية في سوريا ولبنان لا يحدث اعتباطاً وإنما يحمل العديد من المؤشرات التي تدل علي عدم استقرار العلاقات فقد فوجئت اليسا بوضعها علي قوائم الممنوعين من دخول دمشق بعد أن خرجت في مظاهرة تندد بتدخل سوريا في شئون لبنان ورفض أية وصاية عليه ولم تكن اليسا في ذلك الوقت تدرك أن هذا التصرف سيكون له رد فعل كبير يصل إلي هذه الدرجة مما جعلها تؤكد أنها تقف مع حق شعبها في الحياة والحرية وأن هذا لا يتعلق بسوريا علي وجه التحديد لأن والدتها سورية وإنما يرتبط بموقفها ورأيها وبالفعل أدي ذلك إلي رفع أسهم اليسا وسط الجمهور اللبناني إلا أنه أدي إلي وضع العديد من التحفظات عليها من جانب السوريين الذين يملكون القدرة علي وضع تصنيفات للفنانيين اللبنانيين ولكن في خانتين فقط الأولي هي المعارضة والثانية هي الموالاة إلا أن الأغرب من ذلك أن يكون للبنانيين أيضا تصنيفاتهم مثلما ظهر بوضوح تجاه نجوي كرم عندما قامت بالغناء أمام الرئيس السوري بشار الأسد وتعرضت وقتها لحملة انتقادات واسعة مما جعلها تحاول أن تبتعد بقدر الإمكان عن الزج بنفسها في هذا الجدل السياسي وإن كان لها رأي مهم وهو عدم توريط الجيش اللبناني في المشاكل الطائفية رغم ما تتعرض له من تحذير وتهديد. المشكلة أن المطربة اللبنانية التي تشارك في الحفلات السورية ومعروف عنها الحياد وعدم الانضمام لصفوف المعارضة أو الموالاة لا تلقي ترحيباً من الجمهور السوري الذي بات مطالباً لكل الفنانين أن يخضعوا للتوجهات السياسية التي تتحرك بموجبها دولته ومن يخرج عن هذا الإطار لا يجد أي صدي. السياسة عندما تكتب علي النوتة الموسيقية تصاعدت إلي السطح بوادر أزمة سياسية أخري من خلال الكليب الذي قدمه المطرب اللبناني والملحن ملحم بركات وهو بعنوان بدنا حريق والذي يتضمن نقدًا لاذعًا للأزمات التي يمر بها لبنان مؤكدًا أن الشعب قد تعب من خلافات أهل السياسة الذين أهلكوا الوطن وعلي الرغم من إشارة ملحم بركات إلي أن الكليب قد ولدت فكرته من خلال جلسة خاصة مع الشاعر نزار فرنسيس إلا أنه لم يوضح الدوافع التي جعلته يضم صوته إلي صوت المعارضين ضد المسئولين في لبنان، ولكن الكليب تضمن صورًا لهم مما أدي إلي إيقاف بثه، ولم يعرف أحد إذا ما كان ذلك يرجع إلي جرأة كلمات الأغنية التي تقول مازال تفرقنا كل مين بطريق، والمحبة وقعت بالبير الغميق، ما نستاهل تبقي إلنا، اعذرني يا وطني لو قلنا صار بدنا حريق، أم أن الإيقاف يرجع إلي قصد الإساءة للسياسيين عن طريق عرض صورهم مع الكليب، إلا أن زيارة ملحم بركات إلي سوريا والتي تزامنت مع الإيقاف كان لها مغزي مهم لا يمكن أن يمر علي اللبنانيين بدون أن يتعرض للفهم الدقيق، لذلك ارتفعت الأصوات التي تقول إن وقف الكليب جاء بسبب موقف سياسي إلا أن ملحم بركات أكد أنه لا توجد مواقف سياسية وراء المنع وحاول أن يخفف الأسباب قائلاً إن هناك جهات ما قد طلبت حذف صورة أحد المسئولين من الكليب، ففضل هو أن يحذف كل الصور وأن الكليب تعرض للمنع لمدة 24 ساعة حتي وقت إجراء التعديل، وأشار إلي أن التعديلات قد تمت علي النسخة التي تعرض للبنانيين في الداخل أما النسخة الكاملة فسيتمكن مليون مشاهد لبناني من متابعتها في الخارج من خلال شاشة mbc. وقد تعرض ملحم بركات علي خلفية غنائه لهذه الأغنية للهجوم الشديد ووصفه البعض بأنه في أغنية بدنا حريق يتقمص شخصية نيرون، وأنه رجل متعدد المواقف حسب مصالحه فقد حاول أن يغني للرؤساء اللبنانيين السابقين وعندما فشل في الحصول علي أي تكريم غني للسوريين أغنية بشار يا حامل رايتنا ولابد من وضع علامة استفهام كبيرة تجاه كلمات الأغنية التي تم بثها عن قصد في عيد الاستقلال اللبناني ال66، مما جعل اللبنانيين يديرون أنظارهم إلي الجانب السوري الذي يلعب بورقة الفن ليعكر صفو المعارضين له في لبنان ويزيد من دعم الموالين ولم تكن هذه الأغنية هي الموقف الوحيد الذي يدل علي التداخل بين الفن والسياسة، فهناك مواقف أخري كثيرة مثل اختيار الإذاعة السورية لنوال الزغبي ويحيي سعادة ليكونا ضمن الوفد السوري المشارك في مؤتمر كوبنهاجن، وكأن لبنان هي المحافظة التي يكتمل بها عدد المحافظات في سوريا ويجب أن يكون لها ممثلون ومندوبون. ولنفس السبب يرفض الفنانون اللبنانيون المشاركة في مهرجان دمشق السينمائي الدولي في دورتيه الأخيرتين لأن الإعلام اللبناني يصف كل من يذهب إلي المهرجان بأنه محسوب علي النظام السوري، كما أن المهرجان يضع الفنانين اللبنانيين في الصدارة ليظهرهم أمام الجميع بأنهم معه وليسوا من المعارضين وبنظرة فاحصة سنجد أن من حضروا إلي مهرجان دمشق في الأعوام السابقة هم من الصف الثاني أو الثالث، أما نجوم الصف الأول فبدأوا يتحفظون علي زيارة دمشق حتي لا يطالهم أي تصنيف. تمارس سوريا اللعب بأوراق الوصاية علي الفنانين اللبنانيين وتحاول أن تعوض ما خسرته علي الأرض بتحقيق مكاسب أدبية وإعلامية ليست لها مصداقية ففيروز رمز لبناني خالص وليست شارة خاصة لحزب البعث السوري ينتزعها من أرضها ليضعها علي صدره فهي مطربة حصرية لكل اللبنانيين أما اختلاق التوترات فلن يكسر شموخها وكرامة كل الفنانين اللبنانيين.