للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر بحث القضاء البريطاني مذكرة اعتقال بحق مسئول إسرائيلي، وإذا كانت هذه المذكرة لم تصدر في المرة الأولي نهاية سبتمبر الماضي بحق وزير الدفاع إيهود باراك، نتيجة رفض المحكمة المعنية لذلك بسبب تمتعه بالحصانة، فإن الثانية قد صدرت بالفعل في الرابع عشر من ديسمبر الجاري ضد رئيسة حزب كاديما ووزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني والتي كان من المقرر مشاركتها في مؤتمر يهودي، وقد أثار هذا الموضوع موجه كبيرة من الجدل حول كيفية توصيف التهم الموجهة ضد المسئولين الإسرائيليين، هل يتم النظر إليها من منظور الحرب ضد الإرهاب، أم من خلال منظور القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان الذي طالما تم وضعه في العديد من الوثائق الدولية وممارسة الضغوط علي الدول باسمه وإصدار تقارير تصنفها وفقا لمدي احترامها لمبادئهما؟ وفي خضم هذا الجدل، وحتي لا تضيع الحقائق، قد يكون من المفيد الإشارة إلي عدد من النقاط الرئيسية: 1- إن استخدام ورقة الحصانة التي يفرضها تولي منصب معين لمنع صدور قرارات قضائية بريطانية تتعلق باتهامات بالقيام بجرائم حرب أو ضد الإنسانية لا يبدو منطقيا في وقت تجري فيه بريطانيا تحقيقا حول الحرب ضد العراق والتي ترتب عليها الإطاحة بنظام سياسي والقبض علي رئيس دولة كان يتمتع بالحصانة وقت الغزو، ووجهت إليه العديد من الاتهامات المتصلة بانتهاكات حقوق الإنسان والإبادة ، وتم توقيع عقوبة الإعدام عليه. وبالإضافة إلي ذلك فإن الدفع بأن الحكم الصادر علي الرئيس العراقي السابق جاء من قبل القضاء الوطني لا يصمد أمام حقيقة أن عملية البحث والقبض عليه تمت من قبل القوات الأجنبية التي وضعته علي رأس قائمة المطلوبين لديها من جانب، وأن القضية برمتها كانت قضية سياسية قبل أن تكون قضائية من جانب آخر. 2- جاء صدور الأمر القضائي المتصل برئيسة حزب كاديما علي خلفية اتهامات تبنتها منظمات حقوقية ضد وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة بحكم موقعها ودورها في الحرب الإسرائيلية الأخيرة علي قطاع غزة وما سبقها من فرض حصار صارم علي القطاع وما ترتب عليه كل ذلك من سقوط الضحايا المدنيين، إما بسبب الحصار أو نقص الدواء أو نتيجة للقصف واستخدام الفسفور الأبيض في منطقة كثيفة السكان، وقد زاد من مصداقية هذه الاتهامات ما تضمنه تقرير لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي جولدستون عن تلك الحرب من صياغات واضحة وحجج تشير إلي ارتكاب جرائم حرب ترقي إلي مستوي الجرائم ضد الإنسانية من قبل إسرائيل، وتوصيته بإجراء تحقيقات داخلية ذات مصداقية بشأنها وتقديم المسئولين عنها للقضاء. 3- حرصت المسئولة الإسرائيلية السابقة علي أن تضع تعليقها علي القرار القضائي باعتقالها في سياق أوسع يتخطاها؛ حيث وصفتها إنها ليست دعوي ضدها شخصيا أو ضد إسرائيل وإنما ضد جميع الدول الديمقراطية التي تحارب الإرهاب، مضيفة أنه يجب محاكمة أولئك الإرهابيين وليس الذين حاربوهم، وأن الأمر يمثل تحديًا مشتركًا للعالم الحر كله وليس لإسرائيل أو بريطانيا فقط، وجاء الموقف الرسمي متمشيا مع هذا الطرح حيث أوضح وزير الخارجية الإسرائيلي في مؤتمر لمناهضة العداء ضد السامية عقد في القدس إنه إذا لم يتم تعديل القانون البريطاني فإن قادة جيوش الناتو، بمن فيهم البريطانيون، الذين يحاربون الإرهاب في أفغانستان سيجدون أنفسهم يمثلون أمام المحاكم البريطانية. وبعبارة أخري، فإن رد إسرائيل يمثل الاستمرار في توصيف الأعمال التي قامت بها علي أنها تنطوي في إطار الحرب ضد الإرهاب من جانب، وفي تذكير العالم الغربي عامة بان فتح مثل هذه الملفات يمكن أن يشكل سابقة يمكن استخدامها لاحقا بشكل يتخطي إسرائيل ليشمل قادة غربيين قد يتم اتهامهم بمثل هذه الجرائم، خاصة مع وجود من قام بالتوثيق لمثل هذه الجرائم وتوافر الأدلة عليها في بعض الحالات. 4- تمثل الدفع الإسرائيلي الرسمي في هذا الخصوص، والذي ساقته وزارة الخارجية في أنه إذا ما لم يتم تعديل القانون البريطاني واستمرت المحاكم في إصدار مذكرات اعتقال ضد مسئولين إسرائيليين فإن من شأن ذلك أن يمنع بريطانيا من المشاركة في العملية السياسية في المنطقة، وفي الخصوص تثار العديد من التساؤلات حول حق الفيتو الذي تتمتع به إسرائيل علي المشاركة البريطانية في جهود تسوية الصراع في الشرق الأوسط، وإذا كان من الصحيح أنها مارست هذا الحق في الماضي ضد المشاركة السوفيتية في عملية السلام واضعة شروط تفاوتت بين إعادة العلاقات الدبلوماسية التي تم قطعها غداة حرب يونيو 1967، والسماح بهجرة اليهود السوفيت، وهما الشرطان اللذان تم الاستجابة إليهما للسماح بالمشاركة السوفيتية في الدعوة لعقد مؤتمر السلام بمدريد عام 1991، فإن الأمر يبدو مختلفا الآن في ضوء العديد من الحقائق: فمن جانب تشارك بريطانيا في جهود السلام من خلال رئيس وزرائها الأسبق الذي تم تعيينه مبعوثا للرباعية الدولية، ومن جانب آخر تتم المشاركة البريطانية من خلال المواقف الجماعية للاتحاد الأوربي الذي هو أيضا طرف من أطراف الرباعية الدولية، وأخيرا فإن هناك درجة عالية من تنسيق المواقف بين كل من لندن وواشنطن فيما يخص التعامل مع الملفات الدولية الساخنة وفي مقدمتها ملفات الشرق الأوسط. وأخيراً، فإن هناك الكثير من علامات الاستفهام التي تحيط بما يطلق عليه "العملية السياسية" في الشرق الأوسط، حيث تتراوح المواقف بين وصفها في أنها ماتت ودفنت، وبين اعتبارها في حجرة العناية المركزة، في حين ذهب البعض إلي التشكيك في مدي مصداقيتها في ضوء المعطيات المحلية والإقليمية والدولية الحالية، التي قد تسعي إلي استنساخ نموذج المفاوضات من أجل المفاوضات لتتجنب الصدام المباشر مع إسرائيل، خاصة مع وصول المفاوضات إلي النقاط الحساسة التي تتناقض فيها مواقف الأطراف المعنية بما يصعب إمكانية الوصول إلي حلول وسط. 5- لعل الخطورة الحقيقية للتطورات التي تبعت صدور المذكرة القضائية بالقبض علي المسئولة الإسرائيلية السابقة والتي ذهبت في اتجاه السعي البريطاني لتعديل فوانين البلاد بما يجنبها التعرض مستقبلا لمثل هذه المواقف، تتمثل في إبراز التعارض بين مبادئ القانون الدولي الإنساني الذي ينطلق من قدسية الحياة ويسعي إلي تقنين استعمال القوة في أوقات الحروب وفي ظل الاحتلال، وقانون حقوق الإنسان، الذي يراقب التعامل مع البشر وكيفية التعاطي مع حقوقهم الأساسية المختلفة من قبل السلطة الحاكمة، وبين الحرب ضد الإرهاب التي تسعي بعض القوي المنخرطة فيها إلي استخدامها كمبرر لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من جانب، وكوسيلة لفرض مفهومها وتعريفها لخلافاتها وصراعاتها مع خصومها الذين يتم تصنيفهم علي أنهم إرهابيون وتجريدهم من وضعية الضحية المطالبة بحقوقها المعترف بها. وقد جاءت المواقف الإسرائيلية من تقرير لجنة جولدستون حول حربها ضد قطاع غزة لتضع أسس هذا التوجه الخطير في العلاقات الدولية حيث تم وصفه بأنه "انتصار للإرهاب"!