استكمالاً للحديث حول البحث العلمي وأهميته في تقدم الدول نجد أن الأمريكيين قد دأبوا علي النظر إلي بلادهم باعتبارها قلعة العلم ورائدته عالمياً. غير أن السبب الوحيد الذي مكّن الولاياتالمتحدة من التمتع بهذه المكانة الرائدة، هو طرد كل من القائدين النازي والفاشي هتلر وموسوليني علي التوالي، لعشرات العلماء والباحثين من أوروبا، فخلال الفترة الممتدة بين عام 1933 و1941 هاجر نحو 100 من كبار علماء الفيزياء من أوروبا إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولم يلعب هؤلاء العلماء المهاجرون دوراً مهماً في النجاح الذي حققه "مشروع مانهاتان" العلمي فحسب، وإنما استقروا في أمريكا وشغلوا مناصب علمية أكاديمية مرموقة في جامعاتها المنتشرة في شتي الولايات. وبفعل ذلك الدور، ساهموا كذلك في تدريب وتخريج آلاف العلماء الفيزيائيين الأمريكيين، إلي جانب استقطابهم لعدد متزايد من الطلاب الأوروبيين إلي الجامعات الأمريكية عبر الحقب والعقود. وقبل عام 1935 لم يكن نصيب الولاياتالمتحدة من جوائز نوبل في مجال العلوم يتجاوز نحو جائزتين ونصف الجائزة علي أكثر تقدير، بينما تذهب بقية الجوائز كلها للعلماء الأوروبيين. فقد حصلت ألمانيا وحدها علي 10 من تلك الجوائز، بينما وزعت بقية الجوائز علي كل من فرنسا والمملكة المتحدة وهولندا والنمسا وإيطاليا والسويد وسويسرا، إلي جانب حصول الهند علي جائزة واحدة من هذه الجوائز. لكن في عام 1936، ونتيجة للهجرة الجماعية الكبيرة للعلماء الأوروبيين المذكورين إلي الولاياتالمتحدة، تمكنت هذه الأخيرة من حصد كل أو معظم جوائز نوبل التي وزعت خلال 45 عاماً من جملة أعوامها ال69 التي اطلقت فيها. وتشمل قائمة أبرز العلماء الأمريكيين الحاصلين علي هذه الجائزة من المهاجرين من أوروبا كلاً من: إنريكو فيرمي من جامعة شيكاغو، هانز بيث من جامعة كورنيل، فليكس بلوتش من جامعة ستانفورد، إميليو سيرجي من جامعة كاليفورنيا، وجون فون نيومان وألبرت أينشتاين من كلية الدراسات العليا بجامعة برينستون. وليس هذا العدد سوي نزر يسير للغاية من جملة النجوم العلميين الذين دفعوا بالولاياتالمتحدة إلي موقع الصدارة في مجال البحث العلمي دولياً. إلا أن هذا الأثر الإيجابي الذي خلفته هذه الكوكبة من كبار العلماء الذين هاجروا إلي بلادنا من شتي الدول الأوروبية، قد بدأ بالتراجع نتيجة لانحسار هجرة العقول العلمية إلي أمريكا خلال العقود الأخيرة الماضية. فمع أن طلاب الدراسات العليا في التخصصات العلمية لا يزالون يتوجهون إلي الولاياتالمتحدة، إلا أن الكثيرين منهم يؤثرون العودة إلي بلدانهم التي وفدوا منها، بدلاً من الإقامة المستديمة في أمريكا. إن هذه السلسلة التي كتبتها عن البحث العلمي هدفها إلقاء الضوء علي ان طموحات د. هاني هلال والجامعات المصرية ومراكزها البحثية لا تكفي لكي تحقق مصر أهدافها من البحث العلمي. فالمجتمع كله مطالب بأن يمد يد العون لكي تتحقق هذه الطموحات بالعقل والعمل والتمويل..