في ظل وباء أنفلونزا الخنازير، تبدو مصر في حالة غير مسبوقة علي الأٌقل خلال الخمسين عاما الأخيرة، فلم يحدث خلالها أن تعرضنا لوباء بمثل هذا الانتشار والسرعة، وإن اختلفنا حول درجة خطورته وطرق التعامل معه، لكن الأكيد أن مصر في زمن الوباء تبدو مختلفة كثيرا، خاصة في افتقادها للعقل السليم والقدرة علي تحديد حجم المخاطر وطرق التصدي لها. تقريبا لا يمكن استثناء جهة في مصر من حالة الهيستريا الجماعية التي خلقتها الأنفلونزا لا الحكومة المنوط بها اتخاذ القرارات الصائبة، دون الوقوع تحت ضغوط الرأي العام، ولا الإعلام الذي ترك دوره التنويري وتحول إلي أداة لبث الخوف والرعب في نفوس الناس، ولا الشعب الذي لا يريد التعامل بهدوء وسكينة وروية مع فيروس يقول الخبراء في منظمة الصحة العالمية ووزير الصحة إنه لا يزال حتي هذه اللحظة أقل خطرا من الأنفلونزا العادية الموسمية. وحتي لا يسارع أحد بالقول أن من يده في الماء ليس كمن يده في النار، فإن يدي فيها ثلاث نيران لثلاثة أطفال في ثلاث مدارس مختلفة أكبرهم في مدرسة كولاج دي لاسال التي أغلقت أبوابها أمس ولمدة أسبوعين بسبب ظهور عدة حالات من فيروس أنفلونزا الخنازير بين التلاميذ. وقبل بدء الخريف ومع التوقعات العالمية بسرعة انتشار الوباء فيه وصولا إلي أقصي درجات الانتشار في الشتاء، كتبت في هذا المكان داعيا إلي التعجيل ببدء الدراسة لا تأجيلها، فعندها كان الفيروس ضعيفا وقليل الانتشار، لكن الحكومة ممثلة في وزارتي الصحة والتعليم أصرت علي تأجيل الدراسة لتبدأ مطلع الخريف، وحين أرادت مدارس خاصة وأجنبية تحترم العلم وتعرف أهمية التعليم بدء العام الدراسي في الأول من سبتمبر تصدت لها التعليم بقوة وحسم وأغلقت ما بدأ منها. وهذا يدل علي شيئين مهمين الأول: افتقاد الرؤية المستقبلية للتخطيط في تحديد مواعيد العملية التعليمية، والثاني: الأهم والأخطر هو غياب قيمة العلم والتعليم لدي الجهات المنوط بها الحرص علي تلقي كل مواطن حقه من التعليم في هذا البلد. لا أسعي لا نتقاد وزارة التعليم ومن خلفها الحكومة مجتمعة ومتضامنة، بقدر ما يحزنني إهدار عام دراسي كامل، يبدو أنه لن يكتمل في ظل الإغلاق المتسرع للمدارس لمجرد ظهور إصابتين في فصلين مختلفين داخل مدرسة واحدة في إجراء غير مسبوق في أي دولة من دول العالم حتي الولاياتالمتحدة التي تسجل أعلي نسب انتشار ووفيات بسبب الأنفلونزا. لكن للأسف اختار المسئولون التضحية بعام دراسي كامل في حياة نحو عشرين مليون تلميذ لا لشيء سوي عدم القدرة علي تحمل المسئولية أمام الإعلام الهائج، والمجتمع المذعور، فجاء القرار الرسمي علي طريقة "الباب اللي يجليك منه الريح سده واستريح".. وللأسف أيضا فإننا لم نسد هذا الباب فقط وإنما أغلقنا أبواب العلم والمعرفة.