عندما شرعت في كتابة هذه السلسلة من المقالات لم اكن اتوقع ردود الأفعال العنيفة التي أتت بها، والتي جاءت في بعضها كاشفة عن طبيعة التفكير السائدة والجامحة والتي يستنفرها الإقتراب من رمز تاريخي له ثقله كالبابا شنودة، دون ان تتجشم عناء قراءة المتون مكتفية بالعنوان ومتحفزة ضد الكاتب ابتداء، فهو عندهم متهم حتي تثبت براءته، وجاءت في بعضها موظفة في صراع الخلافة الدائر بين بعض الحالمين باقتناص ذلك الموقع السامي بكل ابهاره وهو لو يعلمون ثقيل، وهم قياساً عليه في الموازين إلي فوق، خفة وضحالة وإن تدثروا بالسلطة وتبنوا البطش والعصف منهجاً، غير مدركين أن تفاعلات كثيرة تزول بزوال المؤثر، وجاءت في بعضها فرصة لتصفية حسابات معلقة ومقلقة لم تحن لهم قبلاً. وكدت استدرج الي معارك جانبية لم يحن وقتها بعد، أملك ادواتها ووثائقها، ولي فيها دفوع تقدر أن تعيدهم الي حجمهم الحقيقي الذي لا يري بالعين المجردة، لكنني انتبهت لأولوية تتبع خطي هذا الرجل المتفرد والظاهرة وما أظن انه قابل للتكرار، فكم من دروس في التاريخ لأولي الألباب.. ذاك أفضل جداً. في 30 سبتمبر 1962 يقع اختيار البابا الراحل كيرلس السادس علي اثنين من مساعديه، القمص مكاري السرياني والقمص انطونيوس السرياني لرسامتهما اساقفة عموميين، في خطوة هي الأولي من نوعها في تاريخ الكنيسة، إذ جري التقليد الكنسي علي رسامة الشخص اسقفاً لرعاية بعض من شعب الكنيسة في نطاق جغرافي معين مدينة أو محافظة ويكون مسئولاً عن قيادة نفوس رعيته إلي معرفة المسيح والسهر علي خلاص نفوسهم وهو ما تؤكده صلوات الرسامة "إرع رعية الله التي أقامك الروح القدس عليها ومن يديك يطلب دمها" في اشارة واضحة وجازمة علي المهمة الأولي والأساسية التي للأسقف، وهو ما يفسر لنا هروب الكثيرين من قبول هذه الرتبة التي ستحمله أن يعطي حساباً عن كل نفس من رعيته أمام الله. ومن هنا تؤكد الكنيسة أنه لا رعية بدون اسقف ولا اسقف بدون رعية، ربما لهذا حدد البابا كيرلس السادس أن يكون الأول والذي رسم بإسم الأنبا صموئيل اسقفاً للخدمات الاجتماعية وشئون المهجر، والثاني باسم الأنبا شنودة اسقفاً للتعليم والمعاهد الإكليريكية، فتصبح الرعية في إطار مهمة محددة، المعوزون والفقراء وأقباط المهجر في الأولي، ومنظومة مدارس الاحد وطلاب المعاهد الدينية في الثانية، وإن بقيت قضية الأسقف العام بحاجة الي ابحاث علمية طقسية ولاهوتية تؤصلها وتوثقها، ويبقي السؤال أيضاً عن رسامة اساقفة عموميين بلا مهام محددة، ومدي مشروعيتهم وهو بحث جاد ولازم لضبط مسيرة الرعاية. كان البابا كيرلس ثاقب النظر، فقد ابدع الأنبا صموئيل في هيكلة منظومة الرعاية الاجتماعية واختيار وإعداد وتدريب كوادرها، وكذا في تأسيس العديد من الكنائس في بلاد المهجر في تجمعاتهم الرئيسية، وعبد الطريق للمزيد حتي بعد رحيله، وكان له دور بارز في فترة ما بعد كارثة يونيو 67 وعلي امتداد حرب الاستنزاف في توفير المعونات من المهاجرين والجهات الغربية المانحة لتغطية احتياجات المستشفيات لمواجهة تلك المحنة، في حركة مكوكية لا تهن ولا تهمد، في صمت وهدوء بعيداً عن صخب الدعاية والإعلام. وابدع الأنبا شنودة في تأسيس نسق جديد للتواصل مع الشباب يتحدث اليهم بلغة عصرية يكسر فيها ما كان سائداً وقتها من جفاف اللغة وانفصالها عن العصر، بدأ عمله في هدوء الواثق، بعقد اجتماع لنفر من الشباب في مطبخ الكلية الإكليريكية، بغير دعاية وإعلان، لم يكن عددهم في لقاءاته الأولي يتجاوز الخمسين، كنت واحداً منهم لحسن حظي، وكان مدخله تأملات في مزامير صلوات الكنيسة، تجمع بين التأمل الروحي النسكي والتعليم الآبائي، موقعاً هذا كله علي الواقع المعاش، فخلب الألباب وأسر العقول، فسري خبر اجتماعاته بين الشباب بسرعة مذهلة حتي ضاق المكان بهم فانتقل الاجتماع الي القاعة اليوسابية الأكثر اتساعاً، والتي سرعان ما ضاقت علي المجتمعين فانتقل الاجتماع الي الكاتدرائية المرقسية وقتها بالأزبكية. في غضون ذلك كانت الكاتدرائية الجديدة بالعباسية قد بدت معالمها في الظهور فينتقل الاجتماع اليها بعد ان تجاوز الحضور الآلاف. كان رأيه أن الخدمة الناجحة لا تحتاج الي افتقاد أو الي ترويج فهي تعلن عن نفسها، وحيث الكلمة الصادقة والتعليم الجيد يكون النجاح، وقد كان. لم يكتف الاسقف الشاب بهذا بل كالطيب الفواح كان يجوب المدن والمحافظات بدعوة من اساقفتها ومطارنتها لخدمة شبابها بشكل متواتر ومجهد، وغير بعيد كانت السحب والغيوم تتجمع، إن داخل الكنيسة أو علي حدود الوطن، وهو ينتقل من نجاح الي نجاح، فتدعوه نقابة الصحفيين لإلقاء محاضرة فيها 26 يونيو 1969 بعنوان (اسرائيل في رأي المسيحية) وسط حضور جماهيري حاشد أبرز فيها موقف الكنيسة من المشروع الصهيوني بوضوح، وقال في ختامها: "إذا كان الله يريد أن يرسل عبد الناصر سيف تأديب لهذا الشعب فإن هذا سيكون خيراً روحيا لهم". وكانت المرة الأولي التي يتصدي فيها أحد اساقفة الكنيسة لما يروج في الغرب عن الحق التاريخي للكيان الصهيوني في أرض فلسطين استناداً الي تأويلات لبعض من النصوص التوراتية، في اعادة انتاج معاصرة للدور الريادي والتعليمي لكنيسة الاسكندرية كنيسة مصر. لكن دوام الحال من المحال فقد جرت احداث حاولت الوقيعة بين الاسقف الشاب والبطريرك المسن ، سنتعرض لها في مقالنا المقبل فقد تفسر لنا بعضاً من أحداث اليوم ، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإلي لقاء.