كنت قادما من الإسكندرية لأسجل قصة قصيرة في البرنامج الثاني، الثقافي الآن في الإذاعة المصرية. كنا نتقاضي في القصة عشرة جنيهات وكانت تكفي لشراء بدلة من الصوف الهيلد الإنجليزي ويفيض. كانت الرحلة بسيطة. مبيت عند أحد الأصدقاء في اليوم السابق ثم تسجيل القصة في صباح اليوم الثاني ثم الذهاب إلي مقهي ريش للجلوس بين من يتواجد من الكتاب المشاهير من جيل الستينيات ثم العودة إلي الإسكندرية. في الليلة السابقة كنت ضيفًا علي صديق لي من الإسكندرية أصلا لكنه يعمل ويعيش في حلوان، ولا تسألني كيف كانت حلوان وقتها. تسألني؟. إذن خذ الإجابة، كانت جنة الله علي الأرض. وكعادتي حتي الآن لا أنام إلا متأخرا ظللت يقظًا أقرأ في كتاب معي. أتذكر أنه كان كتابًا عن الأدب الأمريكي لا أذكر للأسف عنوانه. وفي منتصف الليل خرجت إلي البلكونة استنشق هواء حلوان، لم يكن بردا بالنسبة لي أنا السكندري. وفجأة سمعت ضجيجًا تحتي في الشارع ونظرت فوجدت عربات عسكرية فوقها جنود وعربات تحمل مدافع صغيرة فاندهشت ثم مرت بعض الدبابات فاندهشت أكثر وظللت علي دهشتي حتي اختفي المشهد أو انتهي وابتعد الصوت فوجدت نفسي أقول هل هي الحرب؟ وفكرت أوقظ صديقي أسأله لكني أشفقت عليه ونمت لأستيقظ حوالي العاشرة فلا أجده هو الذي يذهب إلي عمله مبكرًا كعادة كل العاملين في المصانع والشركات. تركت البيت لأستقل المترو إلي باب اللوق ومن هناك إلي مبني الاذاعة والتليفزيون. في إذاعة البرنامج الثاني سجلت قصتي وجلست قليلاً مع الكاتب والمترجم كمال ممدوح حمدي وفجأة حدث هرج كبير في الطرقات. ناس تجري وتهتف الله أكبر الله أكبر الجيش يعبر قناة السويس، الحرب قامت. لا أذكر ما جري بعد ذلك إذ بدا الجميع مشغولين فتركت المكان إلي مقهي ريش وهناك وجدت المرحوم نجيب سرور وسليمان فياض أمد الله في عمره وبعد قليل انضم أمل دنقل رحمه الله، ياإلهي أين ذهب الأحبة؟ وكان الحديث كله فرحًا وسعادة وأتذكر حتي الآن وأتخيل سليمان فياض وهو يحلل الشخصية الإسرائيلية وكيف سينتصر الجيش المصري أما نجيب سرور فحدث ولا حرج عن الألفاظ الجنسية التي وصف بها إسرائيل وما سيفعله الجيش المصري فيهم. لم تكن هناك أي اخبار بعد عن اتمام العبور ولا عن الأسري الذين امتلأت بصورهم الصحف في اليوم التالي لكن السعادة كانت فوق الجميع هؤلاء الذين كانوا من أكبر معارضي السادات لتأخر الحرب. كنا في رمضان وشارع طلعت حرب أمامنا والقهوة مفتوحة ليست مسيجة بالجدران كما هي الآن ونجيب سرور لم يفته ابدأ أن يعلق علي جمال النساء والفتيات العابرات امامنا، هذه التعليقات التي لم يكف عنها أبدًا بعد ذلك، بعد ان استقر بي الحال في القاهرة في العام التالي ورافقته كثيرا حتي مات يرحمه الله ولم تكن التعليقات علي النساء أبدًا نابية، كانت ما بين فرسة ومهرة وغزالة وليس أكثر. عرفنا إنه في المساء سيجتمع المرحوم يوسف السباعي بالأدباء في دار الأدباء بقصر العيني ومن ثم وجدت إنه من الأفضل أن أظل في مقهي ريش حتي السابعة موعد الاجتماع. في المقهي اعرف أخبار الحرب. في اجتماع الأدباء مع يوسف السباعي حدثت مناقشات حامية لأن عددًا من الأدباء كانوا علي خلاف معه ولا أذكر تفاصيل الكلام الآن لكن الخلاف كان علي صيغة بيان التأييد الذي يريده السباعي للسادات. كان هناك من يرفض ذلك أصلاً. الاجتماع انتهي بالموافقة علي ارسال بيان التأييد للرئيس السادات ولا أذكر تفاصيله الآن. وفي هذا الاجتماع قابلت كمال ممدوح حمدي مرة أخري فأصر علي اصطحابي معه إلي البيت وكثيرا ما فعل ذلك من قبل وفي بيته في حجرة مكتبه فعل شيئا غريبا لم أره من قبل ولا من بعد. كان هناك جهاز تسجيل كبير فيه راديو فأخذ يحرك مفاتيح الجهاز حتي صرنا نسمع الجبهة وما يدور فيها من قتال، أي والله، طبعا الأمر لم يكن واضحا كل الوقت لكن هذا ما حدث. بل استمعنا إلي بعض أصوات الجنود أو الضباط. متأكد إنه لن يصدقني أحد لكن الذين يعرفون كمال ممدوح حمدي يعرفون مهاراته العجيبة في الكهربا والميكانيكا هو المتخصص في الأدب اليوناني. تركني كمال عند الفجر لأنام. في صباح اليوم التالي أخذت طريقي إلي الإسكندرية. كنت لا زلت أعمل في الترسانة البحرية وكان لي نشاط سياسي لابد أن يظهر الآن في شكل جماعات الدفاع المدني علي الأقل. والي شباب هذه الأيام فان السعادة التي كانت تمشي معنا بالليل والنهار كانت ملء السماء والأرض وصور الأسري الإسرائيليين كانت فرحة مصر كلها وأخبار الطائرات الإسرائيلية التي تقع ومشاهد استسلام الحنود الإسرائيليين. انه المجد الحقيقي حين يتجسد علي الأرض حتي حين بدأت الثغرة وخطب السادات قائلا إنها عملية سينمائية مثل عملية خليج الأردين في الحرب بين ألمانيا وفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية صدقناه وبالليل أذاع التليفزيون المصري فيلمًا عن هذه المعركة ولم يكن الفيلم يشير إلي انها عملية سينمائية. كانت حربًا حقيقية بين الجيش الألماني والفرنسي لكننا صدقنا السادات. أسوأ ماجري بعد ذلك هو أن السياسة أخذتنا بعيدا عن أمجاد هذه الحرب وها هو أخيرا مؤرخ إسرائيلي يقول إننا فعلا هزمنا إسرائيل وأن الثغرة كانت تمثيلية بالضبط كما قال السادات وفي كل عام للأسف الشديد يدور كلام كثير عن عظمة الحرب لكن لا تنشر أبدًا صور المعركة التي حررت كل المصريين من اليأس ولا أعرف لماذا لا يوجد حتي الآن أكثر من كتاب يوثق المعارك العظيمة بالصور.