في الوقت الذي كان يتابع فيه جمع كبير من الشعب المصري مباريات الدوري لكرة القدم ورحلة النادي الأهلي للقاء فريق المنيا في مباريات عصر الجمعة 5 أكتوبر 1973 كان رجال المخابرات المصرية يترقبون بصبر شديد بدء العمليات العسكرية التي تمثل لهم كشف الغطاء عن السر الذي أثقل صدورهم ونهاية للقلق الذي طالما سيطر عليهم خوفا من تسرب أي معلومات ولو غير مقصودة أو أي بصيص من الضوء يفضح نواياهم.. كما أنهم كانوا متلهفين للتحقق من الاختبار العملي الوحيد لصحة كل ما قدموه من معلومات وتقريرات. غروب شمس الجمعة ومنذ لحظة غروب شمس يوم الجمعة الخامس من أكتوبر بدأت مصر الحرب الفعلية والعملية وبحسب كتاب "كل شيء هادئ في تل أبيب" لحسني أبواليزيد الصادر عن الدار المصرية للنشر والتوزيع عام 1992 فقد استعد رجال الصاعقة والضفادع البشرية لرحلة الجانب الآخر للسيطرة وإفساد خزانات النابالم وسد فوهاتها المؤدية إلي مياه القناة.. كما أن غروب شمس يوم الجمعة هو بداية اليوم المقدس "السبت" عند الإسرائيليين حتي غروب شمس السبت.. وفيه تتوقف المواصلات العامة وأجهزة الراديو والتلفاز وتغلق المسارح والسينما والمحلات العامة التي تتحول فيها إسرائيل "إلي كل شيء هادئ" وقد رصدت المخابرات المصرية سيارات إجازات الجنود الإسرائيليين وهي تغادر مواقعها في موعدها المعتاد. التمويه والخداع أما في مصر فكانت السرية والتمويه والخداع تسيطر علي استعداد كل الجبهة المصرية وهو أمر بالغ الصعوبة إلي حد التعقيد فأي حركة غير عادية علي الجبهة المصرية أو حتي في الشارع المصري كانت تترقبها أعين مخابرات الموساد واستطاعت المخابرات المصرية أن تحكم دقة "التمويه والخداع" باقتدار فائق يحسب لها علي مدي التاريخ. فقد تردد في أكبر ست قواعد للطائرات في أماكن متفرقة في مصر "وفي وقت واحد" أن اللواء حسني مبارك قائد السلاح الجوي سيصل في الواحدة والنصف ظهر السبت 6 أكتوبر لكي يشرف بنفسه علي مشروع للتدريب. وفي القصر الجمهوري كان الرئيس السادات يؤدي عطلة الجمعة كالمعتاد في شهر رمضان وأصدر تعليماته بشأن البعثة التي قرر إيفادها إلي الأرجنتين لتهنئة الرئيس بيرون بتولي رئاسة الجمهورية وكانت هذه البعثة قد غادرت القاهرة برئاسة وزير الدولة "ألبرت برسوم" واللواء "محمد السيسي" وعبدالمنعم سليم، أمين رئاسة الجمهورية، وإسماعيل مخلوف المستشار بالخارجية كما أوفد السادات نجيب قدري إلي توجو برسالة شخصية للرئيس إيتان إيديما وقد وصل إلي العاصمة لومي بالفعل. النافذة المفتوحة أما في مدينة القنطرة شرق "الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي" فكانت إحدي نوافذ مسكن متواضع من طابقين مفتوحة علي مصراعيها وفي مواجهتها علي الضفة الغربية كانت عربة مدرعات مصرية تقف كأنها في موقع للحراسة العادية وتحت غطاء مدفع الجرينوف الذي يعلو الكابينة كان غطاء الفتحة اليمني مرفوعًا، بينما فتحة السائق محكمة الغطاء وكان باستطاعة من يلقي نظرة من الجانب الشرقي أن يدرك من منظر هذه السيارة "الراقدة كالذئب" أن جنودها قد هجروها وخلف الفتحة اليمني كان رجل المخابرات المصري يرصد حالة النافذة المواجهة له تمامًا ويرسل حالتها عبر جهاز خاص إلي غرفة المخابرات وكان المنزل الذي به النافذة يحتوي علي أحد رجالنا الأذكياء والمدرب علي أعلي مستوي ولم يكن من المستحب أن تكون وسيلة الاتصال به عبر أي أجهزة وكانت وسيلة الاتصال "البدائية" أفضل من كل الأجهزة وتشهد ملفات المخابرات المصرية بأن هذه الطريقة كانت من بنات أفكار هذا العميل المهم. 8 مربعات فقد قسم زجاج نافذة غرفة نومه إلي ثمانية مربعات متساوية وألصق علي كل مربع ورقة بلون مختلف وكان يثبت مصباحًا صغيرًا خلف المربع الذي يريد له أن يضيء ولما كانت النافذة تطل علي جهة الغرب أمكن لذلك "الراصد" الجاثم في العربة المدرعة المهجورة أن يتبين إذا كان الضوء ينبعث من المربع 1 أو المربع رقم 8 وكان كل مربع من هذه المربعات رمزًا لدرجة استعداد القوات الإسرائيلية وطوال يوم الجمعة 5 أكتوبر كانت النافذة مفتوحة بصفة دائمة وكان هذا الجهاز الغريب لنقل الشفرة يدلي بمعلومة علي جانب كبير من الخطورة فقد كان معني هذا الإجراء وهو أن الجيش الإسرائيلي "يحلم أحلامًا سعيدة". سر الهليكوبتر وفاجأ حسني مبارك الطيارين وهو في زي جندي سائق وفي عصر يوم الجمعة كانت طائرة هليكوبتر تحلق في سماء مصر علي ارتفاع منخفض جدًا لدرجة ظن معها سكان المدن أنها ستسقط فوق رءوسهم وكان اللواء حسني مبارك قائد القوات الجوية يتنقل بنشاط كبير بين القواعد الجوية البعيدة عن القاهرة ليتأكد بنفسه أن الاستعدادات النهائية قد استكملت لإجراء مشروع تدريب بالذخيرة الحية تحدد له صباح يوم السبت. ظرف مغلق وفي الساعة السادسة من صباح يوم السبت 6 أكتوبر أرسلت القيادة العليا برقية لاسلكية إلي جميع الوحدات العسكرية كما أبلغت الوحدات القريبة هاتفيا وكانت التعليمات تتلخص في خفض حالة الاستعداد إلي درجة عادية مع منح قادة الوحدات سلطة الموافقة علي إجازات الضباط في حدود نصف القوة. وفي الثامنة صباحًا اختار كل قائد عددًا من الضباط ليحصلوا علي إجازاتهم وفهم الضباط الباقين أنهم سيقومون بإجازاتهم بمجرد عودة زملائهم وتسلم كل ضابط قبل أن يغادر وحدته مظروفًا صغيرًا مغلقًا وقيل لكل منهم علي حدة إن هذا المظروف يحتوي علي تكليف بمهام سرية ويفتح فقط بعد مغادرة الموقع بساعتين واعتقد بعضهم أن هذه المظاريف تحتوي علي تكليف بمهام رسمية واعتقد آخرون أنهم حصلوا علي ترقية بطريقة مرحة من قائدهم ولكن ما حدث بعد ذلك كان غريبًا فقد كان كل مظروف يحتوي علي ورقة بها ثلاث كلمات فقط عد إلي وحدتك. ديان علي مائدة الهجان وعلي الجانب الآخر كان الزعماء السياسيون والعسكريون الإسرائيليون في حالة تأهب للعطلة بعد أسبوع حافل بالمتاعب وكان موشي ديان "صقر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية" وبطلها المغوار قد ظهر صباح يوم الجمعة في التليفزيون البريطاني في حديث مسجل تحدث فيه عن الفدائيين الذين خطفوا قطار اليهود المهاجرين من الاتحاد السوفيتي وشاهد ديان هذا الحديث في فيلته الفاخرة المؤثثة في حي كبار الضباط الارستقراطي في تل أبيب وهناك كانت تنتظره "راحيل تورن" الشقراء التي اقترن اسمها بفضيحة أثارتها مطلقته وفي تمام الساعة الواحدة والنصف من يوم الجمعة توجه مع راحيل إلي فندق دان في شارع يرتون حيث كانا علي موعد دعوة غداء موجهة لهما من جاك بيتون رجل الأعمال الإسرائيلي رفعت الجمال الشهير في مصر برأفت الهجان، وكان للحوار مذاق خاص لدي كل من الأطراف فراحيل كانت فرحة بهدية الماس التي قدمها الصديق الداعي وديان كان مشغولاً بحوار جانبي مع بيتون علي أعمال التجارة داخل إسرائيل وفي الثانية والأربعين دقيقة تم استدعاء موشي ديان علي عجل من فندق دان حيث كان الجنرال الياهوزائيرا.. مدير المخابرات الإسرائيلية ودافيد اليعازر رئيس الأركان وعدد آخر من كبار الضباط ينتظرون وزير الدفاع ويعلو وجوههم القلق وبعد اجتماع قصير ظل التقييم الرسمي للمخابرات أن احتمال نشوب الحرب مازال مستحيلاً. المخابرات الأمريكية وفي الواحدة تمامًا من 6 أكتوبر أبلغ هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي بالمخاوف الإسرائيلية فاتصل بالمخابرات الأمريكية يسألها الرأي والمشورة بعد تحريات عاجلة وجاء الرد بأن الحرب بعيدة الاحتمال وتلاقت مع تقارير المخابرات الأمريكية والإسرائيلية وشعرت جولدا مائير بارتياح كبير. وفي الجانب المصري كان ظاهر الجبهة هادئاً بينما في باطنها بركان يغلي وفي غرفة العمليات الرئيسية حيث كان مركز رئاسة السادات لعملية الهجوم كانت المعلومات الصحيحة المناسبة تفصل وتوضح علي خرائط كبيرة تبين حالة الشاطئ ودرجة انحدار المياه والتيار وبيان مواقع الموانع وحواجز الدفاع وحقول الألغام وبيانات مطارات العدو القريبة من خط القتال. الخطأ القاتل وتأكدت قوات الاستطلاع الجوي من دقة وصحة ذلك بالدراسة الدقيقة للصور الفوتوغرافية المأخوذة من الجو ومراقبة رسائل إسرائيل اللاسلكية وحقيقة كانت المهمة شاقة وتوحي بالجرأة والمغامرة وأن الجهود التي بذلت تفوق كل تصور فكان سيل المعلومات يتدفق من داخل إسرائيل من عملاء المخابرات المصرية الخمسة عشر الذين قادهم رفعت الجمال الجاسوس الفريد من نوعه وقبل بداية الهجوم بثلاث ساعات تقريباً حدث أمر لم يكن في الحسبان إذ وصلت إلي المخابرات المصرية معلومات عاجلة كان من السهل جدا أن تعطل إجراءات الحرب وكان مصدرها ابن مصر رفعت الجمال جاك بيتون الإسرائيلي وكان الجمال محاطا بهالة ضخمة من السرية والأهمية ولكن يبدو أنه حتي المحترفون يخطئون في بعض الأحيان فقد أرسل رفعت الجمال برقية تقول إنه وصل إلي قاعدة رامات دافيد السربان رقم 109، 116 إضافة إلي سرب الهليكوبتر رقم 124 وبمجرد ترجمة البرقية سيطرت الكآبة والحزن علي ضباط المخابرات واكتست باقي الوجوه داخل غرفة العمليات الرئيسية بقلق وخوف وأصبح السؤال الذي يتردد في عيون الجميع هو ما الذي دفع إسرائيل إلي تحريك هذه الأسراب الثلاثة إلي الشمال؟ المغامرة وظل ضابط المخابرات المسئول هادئًا وكرر القول بأنه يعتقد أن خطًأ ما قد حدث في عملية الترجمة وكان يقصد بخطأ الترجمة أن الخطأ كان من مصدر الرسالة عندما استبدل رفعت الجمال الأرقام بالكلمات قبل إرسالها وقد قاربت الساعة الواحدة ظهرًا وإذ بأمواج الأثير تحمل برقية "مغامرة في هذا التوقيت" إلي "313" للإفادة عن صحة البرقية المزعومة وظل عامل الإرسال يدق هذه البرقية لمدة سبع دقائق متصلة وفي الواحدة وأربعين دقيقة أبلغ قسم الاستماع عن تلقي برقية شفرة وأثناء ترجمتها كانت العيون والقلوب والأعصاب من كل صوب مركزة علي أصابعه في محاولة لاكتشاف الخطأ. وظهرت كلمة جديدة بين سطور البرقية وهي الصواب واكتشف الخطأ الذي كاد يؤجل المعركة إلي أجل لا يعلمه إلا الله حيث احتوت البرقية الجديدة علي كلمة "وجد" بدلاً من كلمة "وصل" في البرقية السابقة وكان أحد العملاء من الإسرائيليين العاملين مع رفعت الجمال قد زار قاعدة "رامات دافيد" يوم الخميس 4 أكتوبر ضمن عدد من فني السلاح بابلاغ مصر بها ونسي أن واجبه كان اعتبارًا من الثلاثاء 2 أكتوبر "للإفادة فقط" عن التحركات المفاجئة "للتشكيلات الجوية". وعند الساعة الثانية وأربع دقائق حلقت أول موجة من الطائرات علي ارتفاع خمسة عشر مترًا فوق سطح الأرض منطلقة في اتجاه الشمال والشرق مخلفة ضجة رهيبة ثم تتابعت موجات بفاصل سبع ثوان وفي الثانية وخمس دقائق تمامًا ترددت في جميع أجهزة اللاسلكي وعلي جميع الموجات كلمة "بدر" وسمع كل من كان بالقرب من جهاز استقبال هذه الكلمة تتكرر ثلاث مرات بوضوح تام في المدفعية والمدرعات والدفاع الجوي والقاذفات والبحرية وجميع أسلحة الجيش المصري وكانت كلمة "بدر" تعني الهجوم المصري علي القوات الإسرائيلية شرق القناة.