سبقتني الدكتورة إيريني ثابت زميلتنا علي صفحات هذه الجريدة، إلي الكتابة عن الهجص والهجاصين والبكاشين واللتاتين نطقتها اللكاكين العجانين، ولقد عادت إلي اللغة الديموطيقية المصرية القديمة لتجد أصولا لكل هذه الصفات تنطبق تقريبا علي معانيها الحالية في العامية المصرية. ربما يكون ذلك صحيحا غير أنني أري أنه ليس من اللازم دائما العودة إلي الوراء لآلاف السنين للتعرف علي أصل كلمة لا تحتاج إلي أكثر من التفكير في معناها العربي المباشر. فإذا أخذنا كلمة هجص مثلا هجّص، تهجيصا، هجاصا التي قرنتها بكلمة (hoax) في الانجليزية بنفس المعني تقريبا، سنجد أن الأقرب لمنطق النطق هو كلمة هاجس العربية، وبذلك يكون معناها المباشر هو الشخص الذي امتلأ عقله بالمخاوف والهواجس بما يعطل ملكات عقله النقدية ويمنعه من رؤية الواقع كما هو عليه. إن وجود هذه الكلمة ومشتقاتها في العامية المصرية دلالة علي عبقرية اللاوعي الجمعي عند المصريين في نحته لهذه الكلمة الجميلة الموحية والتي حرص علي اشتقاقها مباشرة من الفصحي، ثم قطع خطوة أخري لكي يصل إلي ذلك التعبير المدهش كله في الهجايص الذي يستخدمه عندما يريد إدانة كل شيء. أما كلمة يلك ويعجن فالأصل فيها هو اللت والعجن. للأسف هذا الجيل من الباحثين لا يعرف عملية اللت بعد أن توقف المصريون منذ سنوات طويلة عن الخبز في البيوت، كان في كل بيت مصري ماجور عجين وهو إناء مستدير ضخم من الفخار القوي له جدران قوية تعجن فيه ربة البيت العجين، وبعد أن يخمر تبدأ في لته وعجنه، اللت هو أن تقبض بيديها علي قطعة كبيرة منه وتضربها في جدار الماجور ثم تعجنها ثم تلت وتعجن، ثم تلت وتعجن، وتلت وتعجن، وتلت وتعجن إلي أن يتماسك العجين تماما فتقوم بعملية التقريص تصنع منه أقراصا ثم تبططها علي المطرحة الخشبية لكي ترصها بعد ذلك علي طاولة كبيرة ترسل بها إلي الفرن أما في الريف فهي تفعل ذلك بنفسها في فرن البيت. هي عملية مملة كما تري، عملية اللت والعجن، هي صحيحة ومفيدة ومطلوبة عندما تخبز ولكنها عبثية وعدمية وبلهاء عندما تمارسها في مجال آخر مثل الكتابة مثلا أو في العمل السياسي. أما كلمة" يلك" فأنا أعتقد أن الزميلة الباحثة تقصد كلمة "يلكلك" وهي كلمة اختفت تقريبا في استخداماتنا اليومية لسبب سأشرحه لك بعد قليل. هي تعني انعدام الاتقان، أن تفعل الشيء من غير نفس وبدون رغبة في أن يكون هذا الشيء مفيدا، عند ذلك كنا نصف الفعل أنه لكلكة. ولما كانت النسبة الغالبة فينا وبيننا تلكلك في عملها ولا تهدف إلي الإتقان كان من الطبيعي أن تختفي الكلمة، فعندما يكون الكل يلكلك، فسيكون من الصعب عليك أن تجد شخصا تصفه بهذه الكلمة. يقودني ذلك لمناقشة تعبير شهير لاحظت أن الكل تقريبا يستخدمونه بمعني مخالف لمعناه الأصلي وما كان المصريون يهدفون إليه، وهو أن الذي بني مصر كان في الأصل حلواني هم يتصورون أن المقصود أن الشخص الذي بني مصر كان يعمل في الحلويات وبذلك هو شخص يتسم بالعذوبة والحلاوة. الواقع أن الأصل في التعبير هو إدانة اللكلكة وعدم الإتقان، هذا هو معناه بالضبط في دمياط كما تعرفه كل الأجيال، عندما تصنع شيئا بشكل حلواني فمعني ذلك أنك لكلكته، ولم تهتم بصنعه بما تقتضيه أصول الصنعة. ولعل ذلك راجع إلي أن كل الحلويات تتميز بروعة الشكل وعذوبته وهشاشته أيضا. أما حكاية الزميل الذي اتصل بالدكتورة إيريني وقال لها: أنا مبؤء منك، وبعد البحث وجدت أن الأصل الفرعوني يعني احتراق الجلد، ومنها " يبأبأ" الواقع إننا نستخدم حتي الآن كلمة تفأفأ وفآفيئ بمعني البثور التي تظهر علي الوجه فنقول (الواد طلع له فآفيئ في وشه) الواقع أن المسئول عن هذا الخلط هو استخدام الباء بديلا عن الفاء في العامية، وأنا أميل إلي فهم الكلمة بمعناها المعاصر وهو العجز عن الإيضاح وهو ما نقصده عندما نقول ( فلان قعد يفأفأ ويتأتأ ويثأثأ ). أما مبقوق، فنحن نصف بها الشخص الذي ينفجر فجأة في محدثه بعد أن احتبس غيظه وليس غضبه في صدره لفترة طويلة. والمبقوق عادة ليست لديه قضية حقيقية تدفعه للنقاش الهادئ، ولذلك افترض اللاوعي الجمعي عند نحته للكلمة أن كلماته مصدرها ( بقه) فقط ولم تنبع من عقله أو تفكيره، هو مجرد شخص يبحث عن موقف يقول فيه (البقين) بتوعه لكي يشعر بالارتياح. أما البكش والبكاشين فهو المحصلة النهائية لكل ذلك، عندما تمتلئ بالهواجس وبعضها مفهوم وشرعي غير أنك عندما تعجز عن إخضاعها للعقل فلابد أن تحولك إلي هجاص يلت ويعجن طول الوقت فتتحول إلي شخص مبقوق ليس لديه سوي البقين بتوعه، لست أتكلم عن معركة اليونسكو.. ولست أتكلم عن حكاية مقاومة التطبيع والمطبعين .. ولا عن الكتاب ولا عن البكش والبكاشين.