كانت جنة.. هكذا قلت لنفسي وأنا استرجع تلك الأمسية البعيدة في شرفة شقتنا المطلة علي النيل، كانت جنة، تحف أرضيتها أصص الزرع، وتتوسطها سجادة حمراء، فوق وبرها الناعم كنت أتمدد وأغفو، في أمسيات الصيف، حيث يجيئها التليفزيون محمولا فوق منضدة تتحرك بأربع عجلات، ويبث في أركانها صوته الحميمي المختلط برائحة النيل،كنا أربعة، تجهز لنا أختي الشاي وتحمله علي صواني منقوشة من النحاس، فوق كل صينية ثلاثة أكواب، لها واحد ولعماد واحد، أما أنا الصغير كنت ارتشف ما يتبقي من الكوب الثالث، وهو ثقيل كالحبر، لا طعم للسكر فيه، نهتف مارجريت( أختي) وهي ترشقه بإصبعها "شاي بابا"..كنت ارتشف نصيبي من قعر الكوب متصنعا التلذذ، أمتص آخره امتصاصا يخرج بصوت يشبه الصفير... هنا، وفي إحدي الأمسيات الصيفية، قبل خمسة وعشرين عاما مضت، كنت قد غفوت فوق السجادة الحمراء، فتركوني أنام، كما جرت العادة، حتي ينتهي أبي من قراءة إصحاحه اليومي، ويحملني بعدها إلي السرير، إلا أن ما حدث بعدها كان أمرا عجيبا، إذ أنه سمع فجأة صرخة أختي المفزوعة، فقفل الإنجيل بسرعة، وقفز ناحيتها جريا، وعند الصالة قابله أخي لاهثا.. - ألحق يا بابا..ألحق هدرا بسرعة كنت واقفا ببيجامتي الكستور أتصبب عرقا، وجسمي يختض بعنف، أهذي بكلمات غريبة، وأتعسر في نطق حروفها، كنت ? كما قالوا- كمن أخاطب أشباحا غير مرئية. وفي الصبح حكيت لهم حكاية عجيبة، قلت إن الملائكة صغيرة حلوة ولها أجنحة حملتني وطارت بي إلي هناك، إلي سهل منبسط حتي حدود المدي، ممتد من الأرض إلي السماء، ومتألق بانعكاسات الماء الفضية المبهجة، مفعم بنسيم الخضرة ورائحة الورود وزقزقة العصافير... - يا سلام صاح أبي وهو يبتسم بالكثير من الريبة، فهذا المكان الرائع لا يمكن أن يكون من نسج خيالي أبدا، لا يمكن أن تصل بي التوهمات لهذا الحد من الكلمات المرتبة، وأنا بعد طفل لم أتجاوز السادسة، أصف تلك الجنة التي رأيتها كما لو كانت حديقة غارقة تحت الماء، أو فردوسا مختفيا بين السحب... - فين المكان الحلو ده يا بابا...سألته - مش عارف...لكن ممكن تحاول ترسمه قلت ..."ممكن جدا" - عظيم ...يبقي أكيد ها نعرف هو فين أعطاني ورقة بيضاء وقلم رصاص..وراح من بعيد يراقبني، وضعت أول خطوطي علي الورقة بتوتر، ثم رفعت وجهي نحوه وسألت... - ارسم صورة شجرة قال - ارسم ومن يومها وأنا أحاول...أحاول