الأكيد أن جامعة الدول العربية لا يمكن أن تلعب دور لجنة تحقيق في هذه القضية أو تلك، قضية تمس أمن هذه الدولة أو تلك من قريب أو بعيد. لكن الأكيد أيضا أنه ليس طبيعيا أن تقف الجامعة مكتوفة أمام ما يتعرض له هذا البلد العربي أو ذاك من مخاطر تمس المستقبل العربي ككل والمنظومة الأمنية العربية من المحيط إلي الخليج من دون استثناء. في الأمور المصيرية، هناك، بكل وضوح، غياب لجامعة الدول العربية. لا يمكن في أي شكل لوم مؤسسات الجامعة علي هذا الغياب الذي يشكل أفضل تعبير عن حال العجز العربي. لا يمكن لوم الأمين العام للجامعة ولا من يدور في فلكه. يمكن لوم الإرادة العربية علي ذلك. لا وجود لما يسمي إرادة عربية، أو علي الأصحّ سياسة عربية واضحة في أي مجال كان. وفي حين في الامكان الاتيان بأمثلة لا تعدّ ولا تحصي علي غياب ما يمكن تسميته سياسة عربية، في الامكان الاكتفاء بثلاثة امثلة علي العجز العربي عن اتخاذ أي قرار من أي نوع كان في مواجهة ما يعتبر تدخلا إيرانيا وقحا في الشئون العربية في محاولة سافرة لوضع اليد علي القرار العربي بدعم سوري مكشوف. يلعب النظام السوري من دون أي مواربة دورا في تعطيل القرار العربي. كل ما يقال عن محاولات للتمييز بين النظامين السوري والإيراني وإعادة سوريا إلي الكنف العربي كلام في غير محله. مثل هذه المحاولات إضاعة للوقت خصوصا بعدما استطاع النظام الإيراني ملء الفراغ الذي نجم عن الانسحاب العسكري السوري من لبنان نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من فبراير 2005 . كان الانتشار العسكري الإيراني الواسع في لبنان الذي نفذه "حزب الله" بمثابة تعويض عن اضطرار الجيش السوري إلي الانسحاب من الأراضي اللبنانية تحت ضغط الشارع السنّي أولا والمسيحي والدرزي إلي حد ما. لم يخش السوري الدعوات المسيحية المتكررة والقديمة إلي الانسحاب من الأراضي اللبنانية بموجب اتفاق الطائف الذي حظي بغطاء عربي ودولي. لم ينسحب عسكريا إلاّ بعدما نزل اللبنانيون بكل طوائفهم إلي الشارع، متحدين النظام الأمني المشترك الذي كان يرمز إليه الرئيس أميل لحود. حصل ذلك إثر تفجير موكب رفيق الحريري. وكان اللبنانيون، الشرفاء حقا، علي علم تام بمن يقف وراء الجريمة ومن المستفيد منها. لم ينسحب السوري إلا بعدما أمّن وجود طرف حليف يستطيع ملء الفراغ. ملأ "حزب الله" الفراغ أمنيا وسياسيا. وليس صدفة أنه صار مصرّا علي دخول الحكومة اللبنانية بعد الانسحاب السوري من لبنان في حين كان قبل ذلك غير مهتم بذلك وكانت السياسة الداخلية اللبنانية لا تعنيه من قريب أو بعيد ! ماذا فعل العرب بعد اغتيال رفيق الحريري؟ هل وقفوا مع لبنان وقالوا بصوت واحد إن المطلوب الانتهاء من الوصاية الخارجية علي الوطن الصغير وأن الوصاية السورية - الإيرانية يجب ألا تحل محل الوصاية السورية؟ لم يفعلوا شيئا. لم يكن بينهم، بشكل عام، من يمتلك القدرة علي استيعاب أهمية الحدث اللبناني الذي لا تزال فصوله تتوالي إلي يومنا هذا. هناك اقلية عربية واعية ادركت منذ البداية ابعاد ما يشهده لبنان وفهمت أن اغتيال الحريري لم يكن سوي الحلقة الأساسية في سياق انقلاب سوري - إيراني. لم تستطع هذه الأقلية العربية أن تفعل شيئا في غياب شبه اجماع عربي علي تجاهل حقيقة ما يدور في لبنان كل ما يمكن قوله الآن إن المحاولة الانقلابية مستمرة. من يمنع تشكيل حكومة في لبنان هو المحور الإيراني - السوري المستمر في انقلابه. عبر منع تشكيل الحكومة، يسعي هذا المحور إلي تأكيد أن لا شيء يمكن أن يحول دون تنفيذ الانقلاب الذي احبطه انتصار القوي المتمسكة بالحرية والسيادة والاستقلال في انتخابات السابع من يونيو الماضي. لم يفعل العرب شيئا في لبنان. لم يفعلوا شيئا في فلسطين حيث نفّذت "حماس" انقلابا علي الشرعية الفلسطينية انتهي بسيطرتها علي قطاع غزة وتحويله إلي "إمارة إسلامية" تابعة عمليا إلي المحور الإيراني- السوري. لو كان هناك شيء اسمه عرب، لكانت جامعة الدول العربية دانت انقلاب "حماس"، الموجه أساسا ضد مصر، مؤكدة أن وجود مثل هذا الكيان الطالباني (نسبة إلي طالبان) في غزة لا يخدم سوي الاحتلال الإسرائيلي ولا يخدم سوي حال التشرذم التي يعاني منها الشعب الفلسطيني ولا يخدم سوي المتاجرين بالقضية الفلسطينية في هذه العاصمة العربية أو غير العربية أو تلك. ولكن علي من تقرأ مزاميرك ياداود؟ في غياب الموقف العربي الجريء، كان طبيعيا أن يتابع الحوثيون في اليمن، بتشجيع إيراني مكشوف، وإن غير مباشر، محاولتهم إقامة دويلة داخل الدولة اليمنية علي طريقة دويلة "حزب الله" في لبنان. يحصل كل ذلك في لبنان وفلسطين واليمن فيما العرب يتفرجون. ربما كانوا معذورين بسسب عدم قدرتهم علي اتخاذ موقف حيال ما يشهده العراق حيث الوضع في غاية التعقيد. ولكن في لبنان وفلسطين واليمن، تبدو الأمور واضحة وضوح الشمس في عز النهار. سيدفع العرب غاليا ثمن التقاعس في لبنان وفلسطين واليمن. في حال ليس في امكانهم اتخاذ موقف من تشكيل حكومة لبنانية ليقف أحدهم في مجلس جامعة الدول العربية ويسأل: لماذا تهريب كل هذه الأسلحة من الأراضي السورية إلي لبنان؟ لماذا التشجيع علي إقامة دويلة داخل الدولة اللبنانية وايجاد كيان فلسطيني مستقل في غزة ودويلة داخل الدولة في اليمن؟ أو ليس ذلك تشجيعا علي تفجير ما كان يسمي إلي ما قبل فترة قصيرة العالم العربي وتفكيكه من الداخل؟ إذا لم يتخذ العرب موقفا من مثل هذا النوع من الأحداث، ما نوع الأحداث التي يحتاجونها ليكون لديهم موقف، أي موقف كان؟