في الوقت الذي تغمرني وتشيع في نفسي فكرة أنني أنا أنا، وأنني لست أنا، وأن ما كنته كنته كشخص أول، وأن ما سأكونه سوف أكونه كشخص ثان، وأن الأسي مغمور في قلبي وكأنه موسيقي رومانتيكية عليلة، يصح أن تصبح منبعا للبكاء علي جمال زائل، أو تصبح منبعا لاستقبال جمال جديد، لا يهم إذا جاء مجردا من العاطفية والعاطفة، لا يهم إذا جاء ليؤكد علي الاستقلال التام للفن، طموح أتمني أن يتغلب ويغلب في النهاية، في الوقت هذا تشيع في نفسي أبيات المازني العذبة: إني أراني قد حلت وانتسختُ/ مع الصبي سورة من السورِ/ وصرت غيري فليس يعرفني/ إذا رآني صباي ذو الطّررِ / ولو بدا لي لبتُّ أنكره كأني لم أكنه في عمري/ كأننا اثنان ليس يجمعنا/ في العيش إلا تشبث الذكرِ/ مات الفتي المازني ثم أتي/ من مازنٍ آخر علي الأثرِ ومنذ زمن قديم ماضٍ، تامٍّ في مضائه، كنت وصديقي الشاعر أحمد طه نتنافس علي القيام بدور إبراهيم عبد القادر المازني، كنا نشفق علي العقاد، ونراه جبارا في عالم الظاهر، ومسكينا في عالم الباطن، ونحب عبد الرحمن شكري، ونبحث عن اعترافاته، بشغف ومودة، ونفكر في إعادة طباعتها، ونضع عقولنا وبعض قلوبنا، بين يدي طه حسين، نقرأ له ونقرأ عليه، ثم ننتقل إلي الحواريين، فنصاحب عبد الرحمن صدقي والعوضي الوكيل ومحمود عماد وعلي شوقي، ولكننا في الأخير ظللنا نتنافس علي إبراهيم المازني، بسببه نفعل ما يسبب الخراب، كنا مثله نحب ألا نهدأ وألا نستريح: أخوك إبراهيم يا مصطفي/ كالبحر لا يهدأ لا يستريح قابلت إبراهيم أول مرة في مكتبة مدرستي، مدرسة القبة الثانوية، حيث استعرت ديوانه الذي هو أول ديوان أستعيره، ظلت مكانة الديوان غاضة في نفسي حتي انجلت فيما بعد، هل انجلت فعلا، وظل الديوان يمثل هوسا محبوباً بالماضي، كان كتابا كبيرا أقطع، أرض غلافه سماوية اللون تميل إلي الخضرة الدفينة، مكتوب في أعلاه بالخط الأسود الصغير (الجمهورية العربية المتحدة)، وفي أدناه بالخط ذاته مكتوب (المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية)، وبينهما إلي أعلي وبالأبيض (ديوان المازني)، وإلي أسفل وباللون الأسود وفي سطرين متتاليين (تولي مراجعته وضبطه وتفسيره)، ثم في السطر التالي وببنط أكبر (محمود عماد)، والديوان يشمل ثلاثة أجزاء في كتاب واحد، الأول والثاني مطبوعان في حياة المازني، وقد شرحهما بقلمه، أما الثالث فبعد وفاته، قدم عباس العقاد الجزء الأول وقدم المازني الجزء الثاني، وجاء الثالث بغير تقديم، أطلت بفعل قوة الحنين في وصف الكتاب، وبفعلها أيضا مازلت أذكر محاورته مع ولده محمد: لم أكلمه ولكن نظرتي ساءلته أين أمك وهو يهذي لي علي عادته - مذ تولت- كل يوم! كل يوم! فانثني يبسط في وجهي الغضون ولعمري كيف ذاك! كيف ذاك! قلت لما مسحت وجهي يداه "أتري تملك حيلة؟ أي حيلة؟ قال ما تعني بذا يا أبتاه قلت: لا شيء أردته ولثمته منذ لقائنا - أنا وإبراهيم- في مكتبة المدرسة، وأنا أسعي خلفه، عرفته أحيانا في مقاهي باب اللوق، وفي صالون مي زيادة، ربما لمرة واحدة، فهو لا يرتاد الصالونات، عرفته أمام الآلة الكاتبة، عرفته في كتبه كلها، وفي صحوي، وفي منامي، كان يظهر لي أعرج في اليقظة، صحيح القدمين في الحلم، ساخرا في اليقظة، حنونا في الحلم، وتأملت خلاله، ما سوف أظل أتأمله دائما، لماذا لم يحقق مكانة بعض أنداده وشهرتهم، العقاد وطه والحكيم، هل الحكيم من مجايليه، كان المازني يفضل أن يمشي علي قدميه من البيت إلي مقر العمل، أو إلي المدافن القريبة، دون أن يفكر في ركوب عربات الحديد ذات السقف الواطئ والجدران السميكة والتي تمتلكها الأحزاب والقصر، كان يكثر من تذكر اللصوص، يتصورهم قراءه، ويشفق عليهم إذا سعوا لسرقته، لأنهم لن يجدوا غير الكتب، ليتهم يسرقونها، علاقة المازني بالكتب وبالأفكار فيها هي خليط من المشاعية والعدم، إذا جلس المازني علي كرسي في مقهي، جلس وحيدا، وإذا تكلم انخفض صوته، كان جل الحجرة وليس رجل الميدان، يحكي نعمان عاشور كيف رأي المازني في مقهي، كيف ذهب يتعرف عليه ويجالسه، لكن المازني لزم الصمت واستمر ينظر إلي وجه نعمان كأنه يسأله ماذا تريد، لماذا لا تتركني في حالي، لم يهتم المازني بحقيقة أن العربة الحديثة، عربة السياسة تقف في كل المحطات، وتصل كل البلدان، وتصنع الشهرة وعلو الصيت، عامدا لم يركب المازني العربة الحديدية، سياحاته كلها كانت في أغوار نفسه، كانت تمتص جهده، ذهب العقاد إلي حزب الوفد ثم خرج عليه، ذهب طه إلي الأحرار الدستوريين ثم إلي الوفد بعد خروج العقاد، وقضي أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل عمريهما في إدارة حزب الأحرار الدستوريين، وانتسب سلامة موسي إلي أول تنظيم سري شيوعي، وبعده انتسب دائما إلي طوائف اليسار، أصبح العقاد كاتب الوفد الجبار بتسمية سعد زغلول له، وأصبح طه وزير التعليم وعميد الأدب العربي بتسميات عديدة، أما المازني فكان شأنه أن ينتبذ مكانا قصيا، عكف علي ذاته، ولم يبتعد عنها إلا ليراها، كان يحمل ذاته كما تعود أن يحمل جسمه، لم يستطب أن يحمله جسمه، ولا أن تحمله ذاته، كفاهما التعب والمؤونة، أكلما عشت يوماً/ أحسست أني متّه/ لا أعرف الأمن عمري/ كأنني قد رزئتهُ/ ما تأخذ العين إلا/ ما ملّني ومللتهُ/ كأن عيني مدلولةٌ/ علي ما كرهتهُ/ ثوب الحياة بغيضٌ/ يا ليتني ما لبستهُ [email protected]