هذا هو كمال يس كثيرًا ما نتعرف علي شخصية المخرج من خلال إبداعه الفني، لكن أن نتعرف علي كمال يس أثناء إخراجه لمسرحية هذا هو (الاكتشاف الأعظم) في العام 1955 وفي صباح يوم صيفي حار جدًا ببورسعيد وعلي مسرح (الأولدرادو) بروفة شبه ختامية تسبق افتتاح عرض (مصر القديمة) أو (الناس اللي تحت) فيما بعد لنعمان عاشور والمخرج الفتي (كمال يس) عرقان جدًا يمسك منديلاً يمروح به نحو وجهه ويصرخ، هوا، هوا.. ياللا. قميصه مفتوح تمامًا وصدره العريض عار تمامًا، حركته نشطة جدًا وفي غاية العصبية وهو يعطي تعليماته في الأداء للزملاء: توفيق الدقن، عبد المنعم مدبولي، سعد أردش وغيرهم، إنه الآن في حالة اندماج تمثيلي لكل الأدوار. هناك مخرجون كثيرون يعيشون العمل الفني كمعادلة رياضية باردة محسوبة وينكمشون في ركن علي خشبة المسرح أو بصالة المشاهدين يتابعون كمراقبين (الحدث المسرحي) الذي يجري أمامهم، وربما عندما يتدخلون في الأداء يسرفون في وصف الخطأ في الأداء دون (ضرب مثل مفحم) للممثل، ويسعد الممثل المتميز بإحراج المخرج (المكلمة الذي يقوم بالإخراج من خارج مدرسة الممثل) بأن يطلب منه لتعجيزه (أعملها ازاي يا أستاذ)، ولو لم يملك المخرج قدرة (فعلية علي الأداء) لتحول الموقف إلي (مسخرة) فسوف يحاول المخرج التمثيل بطريقة لا تقنع أحدًا، وينتصر الممثل المتميز في تحجيم (الأخ المخرج) المعاق. لكن كمال يس (منصوب وسط المشهد) أعني داخل خشبة المسرح، وسط الممثلين لا يتابع لكنه يعايش ويمثل ويشارك ويعدل ويجود الأداء ويقفز فرحًا مرحًا وسط ممثليه وقد يصرخ غضبًا، أو تحميسًا أو حثًا لزيادة الإيقاع، أو لتلوين الأداء بدرجة عاطفية خاصة. كل هذه المتعة الرائعة لكتلة متمكنة من الإحساس وقوة جسدية لا تكف عن الحركة والعرق والتهوية أمام الوجه والصياح الدائم (هوا .. هوا) إنه يبحث عن أكبر طاقة من الأكسجين لتمده بأكبر طاقة من الحيوية والعطاء، جلست منكمشًا في مقعدي البعيد في بقعة مظلمة أتابع الشاب كمال يس وهو يصنع وكوكبة الموهوبين بالمسرح الحر قطعة من الصدق الفني الخالص في مسرحية جديدة إنها (مصر القديمة) والتي تعدل اسمها إلي (الناس اللي تحت). ولاحظت أن بعض المخرجين منفصلون عن النص، فهو في يدهم أو أمامهم. إنهم (لا يحفظونه إذ يظل جسمًا خارج أجسادهم) لكن كمال يس لا يمسك ورقًا ولا يجلس، النص معجون بداخلة.. يخرج من فمه كقطعة منه، وكأنه (يؤلفه) في لحظة إخراجه حروف وسطور وفكرة النص في داخل عقله، وسرت شخصياته في شرايينه وها هو المخرج والنص شيء واحد - كلاهما يؤمن بالآخر كلاهما ملتصق بالآخر، معني هذا أنه (قد عاش النص وابتلعه وهضمه، وها هو يقدمه لنا سهلاً وعميقًا). أكثر من خمس ساعات من النشاط الممتع وجدت نفسي مشدودًا مبهورًا معجبًا للغاية كمال يس. أحببت الرجل الذي عندما يدخل يقول (صباح الخير جميعًا) وعندما يمضي يقول (سلامو عليكم جميعًا) إنه لا يخص فردًا بالتحية.. إنه المتعجل المنفعل.. المشغول .. المندفع دفاعًا عن المهنة. وكان زملاؤه المقربون يسمونه (كمال كريشندو) ومن المعلوم طبعًا أن الكريشندو في الموسيقي هو تصاعد النغمة حتي قمتها، وهكذا كان كمال يس (يصعد) في درجة الصدق والأداء والإيقاع حتي القمة. تعلقت بالرجل.. تابعت أعماله.. صادقته.. واقتربت من عالمه، عشت وزملاء عديدون أزماته الإدارية والإنسانية، ومعاركه الفنية، عملت معه نائبًا بمسرح الحكيم، وقفت إلي جواره منتجًا مساعدًا عندما أخرج لرشاد رشدي (نور الظلام) وعاصرت كمال يس وقد شحبت شحنته العالية في إخراجه لمسرحية توفيق الحكيم (شاهين مامات) زادت حدة صرخاته (هوا .. هوا .. عاوز هوا) وقل حماسه وفتر للغاية ولم يسعد بهذا العرض، لقد فقد (الكريشندو) تصاعده العظيم، وبدا مجهدًا، لقد وصل إلي مرحلة (الديمنودو) آخر لحظات الهبوط، ولم يمر وقت طويل إلا وغادرنا ولم يقل (سلام عليكم جميعًا).