قد يكون عنوان المقال غريب، لكنه للأسف الأكثر تعبيراً عن موضوعه. المؤكد أن الملك أحمس بعدما انتصر علي الهكسوس وطردهم من مصر واستقر له الحكم فيها كان لديه من يجمع "زبالة" أو "قمامة" قصره وأن الكهنة ورهبان المعابد كانوا يخلفون وراءهم "زبالة" يرمون بها في الأماكن المخصصة لها وأن مصريين من القدماء كانوا يجمعونها وينقلونها إلي أماكن أخري خُصصت لذلك الغرض ثم يقومون بفرزها أو حرقها. المهم أن تلك العملية كانت تتم ليعيش المصريون في نظافة مثلهم مثل باقي الأمم تمكنهم من العيش بعيداً عن الزبالة فبرعوا وتركوا للعالم بعدها آثاراً بالغة الروعة والإتقان وأسراراً بالغة الغموض. الأمر نفسه تكرر في عهد الملك رمسيس صاحب الشهرة العالمية والمدوية وفي عصره كان المصريون يخلفون قمامة وزبالة وبقايا تفاصيل حياتهم كل يوم وكانت هناك جهة ما تابعة للدولة مهمتها جمع الزبالة والتصرف فيها، لم يكن الأمر في أيدي شركات أجنبية ولا يحزنون، ولم يكن العلم توصل إلي مصانع تدوير القمامة أو معالجتها. المهم أن عملية النظافة والتنظيف كانت تتم بصورة تلقائية وإلا لما نجح المصريون القدماء في تشييد تلك المعابد المذهلة أو تفوقوا في باقي العلوم وسبقوا العالم ولولا نظافتهم ما كانوا قد توصلوا إلي أسرار التحنيط أو بناء مراكب الشمس أو المسلات. أزيدكم من الشعر بيتاً: هل تم بناء الأهرامات من دون مخلفات من جراء الأعمال اللوجستية لنقل الحجارة ووضعها والوصول بالهرم من القاع إلي القمة، أو الزبالة الناتجة عن إقامة جيوش العمال والموظفين في المكان نفسه وهم الذين حملوا الأحجار أو قطعوها أو رصوها أو الذين أشرفوا عليهم وراقبوا تطابق التنفيذ مع التصميم، كان هؤلاء يأكلون ويشربون وكان هناك من يحمل زبالتهم وينقلها إلي أماكن أخري بعيدة، هكذا أدرك المصريون أن جو الزبالة ومناخ القمامة لا ينتج فكراً ولا علماً ولا ثقافة ولا يخلق إلا أمراضاً وتخلفاً. بالتأكيد الأمر لم يتوقف عند الفراعنة، فبعد دخول الإسلام إلي مصر ردد المصريون دائماً أن النظافة من الإيمان، ولو قسنا مدي إيمان المصريين الآن بمعيار النظافة لوجدنا أنفسنا الأبعد عن كل إيمان، رغم أنهم بقوا في الدولة الفاطمية ومن بعدها الأموية ثم العباسية، وفي الدولة العثمانية وبعد ثورة يوليو يتعاملون مع مخلفاتهم باعتبارها "زبالة" لا يمكن أن يعيشوا وسطها وأن تملأ الفراغات بينهم. أتحدث عن تلال وجبال الزبالة المنتشرة في ربوع مصر ومدنها وفي شوارعها وحواريها أو في ميادينها وساحتها الفسيحة والضيقة، بعد كل هذا التاريخ تعجز مصر عن التصرف في زبالة أبنائها ويعجز المصريون عن اختراع العجلة من جديد ليجدوا حلولاً لمشكلة حلوها من أيام أحمس ورمسيس ومينا، "حاجة" تكسف وتدعو إلي الخجل حينما نكتب ونناقش ما هو بديهي، وكأننا نخوض مجالاً جديداً غير معروف في العالم، وكأن الزبالة كالبراكين أو الزلازل أو كوارث الطبيعة التي تحدث فجأة وتهبط علينا من دون أن نتوقعها. لجأت الحكومة إلي شركات أجنبية استأجرت زبالين وعمالاً مصريين وفرضت علي الناس سداد قيمة نقل الزبالة، وأضافت أعباءً جديدة علي فاتورة الكهرباء، واعترض الناس ولجأوا إلي القضاء، وأثير الجدل القانوني حول حق الحكومة وحقوق المواطنين. وفي النهاية بقيت الزبالة وزاد حجمها وتنوعت وانتشرت إلا في الشوارع الرئيسية أو حول بيوت المسئولين. المذهل أن غالبية الدوائر والمصالح الحكومية ذات الصلة بالزبالة كالمحافظات والمحليات البلديات لا تري في الأمر مأساة يعتبر أننا "مزودينها حبتين" وأن الأزمة ستحل بمجرد أن ينتهي عمال الشركة الإيطالية إضرابهم. رغم أن لا شركة إيطالية أو حتي أمريكية لها صلة بما وصلنا إليه، فالزبالة صارت ظاهرة مصرية بكل أسف وخجل وأسي، نحن الشعب الوحيد في العالم الذي يقف فيه الكناسين أعلي الكباري ليتسولوا في حين تبقي الأماكن التي تحتاج إلي من ينظفها بلا كناسين. ما هي الكيمياء أو التكنولوجيا بالغة الدقة أو النظريات المعقدة التي يمكن أن تحل هذه القضية؟ أفيدونا ياناس.. أغثونا ياقوم.. يتسول الكناسون فوق الكباري.. والشعب يتسول حلولاً لمشكلة النظافة.. هل المطلوب أن يتحول الناس إلي جزء من البيئة التي يعيشون فيها؟ هل تريد الحكومة أن تغطينا الزبالة من كل جانب وأن يعيش أبناء هذا الوطن وسطها وكأنهم جزء منها وهي جزء منهم؟ بكل صراحة "حاجة تقرف جداً" أن يكتب أكثر من زميل في القضية دون أن يتحرك أحد، و"حاجة زبالة جداً" أن يصل الحال بنا إلي هذه الدرجة دون أن ندرك أننا في مشكلة إلا إذا كان بعض مسئولينا يعتقدون أن هذا الشعب يستحق أن يعيش وسط الزبالة وأن يصبح جزءاً منها.