الحبيب السائح, روائى وقاص جزائرى ،من مواليد منطقة سيدى عيسى ولاية معسكر. نشأ فى مدينة سعيدة، تخرج فى جامعة وهران، اشتغل بالتدريس، وأسهم فى الصحافة الجزائرية والعربية. غادر الجزائر عام 1994 متجهًا نحو تونس, حيث أقام بها نصف سنة قبل أن يشد الرّحال نحو المغرب الأقصى, قال عنه الروائى الجزائرى واسينى الأعرج: يعيد الحبيب السائح قراءة التاريخ الوطنى من خلال حفريات جديدة فى الجسد الجزائرى، المثخن باليقينيات الزائفة. لهذا يتعامل الحبيب مع التاريخ ليس بوصفه تاريخاً منتهياً ولكن كمساحة للتساؤل.من أعماله القصصية: القرار (1979)، الصعود نحو الأسفل (1981)، البهية تتزين لجلادها (2000)، الموت بالتقسيط ( 2003) . ومن أعماله الروائية: زمن النمرود (1985)، ذاك الحنين (1997) ،تناسخت (2002)، كولونيل الزبربر (2015)، أنا وحاييم (2018) التى وصلت للقائمة الطويلة فى جائزة البوكر هذا العام. ترجمت له إلى الفرنسية روايتى: ذاك الحنين (2002)، وتماسخت ( 2002).. هنا حوار معه: ■ دائما ما تشاكس التاريخ فى أعمالك.. فهل جعلت القلم خادمًا للتاريخ أم العكس؟ شخصيًا، لا أجعل كتابتى تدخل فى أى مشاكسة من أى نوع كان؛ لأنها تعبر عن قناعاتى ومواقفى تجاه ما يشغلنى، بصفتى الفردية، فى بيئتى مرتبطةً بما يحيط بها. وعليه، فلا أسعى بها إلى الإثارة، لأن مثل ذلك ليس من طبيعة الكتابة الأدبية. وحين يتعلق الأمر بالتاريخ، فإنما أكتب لأدخل معه فى حوار باعتباره، هو أيضًا، إحدى المنظومات التى تحتوى، فى الوقت نفسه، على جملة من الحقائق تكون غالبًا رافضًا للنص الروائى، وعلى «مغالطات» يصبح الرد عليها روائيًا من بين أهم وسائل نقدها؛ وهو عمل مشقٍ جدًا يتطلب درجة وعى وكفاءة سردية، بحيث يتلقاها القارئ فى صيغتها التخييلية وكأنها هى حقيقة الحقيقة التى غيبها التاريخ؛ سواء أكان ذلك بالنسيان أو التناسى أم كان بإيعاز من هذه السلطة أو تلك, أم كان أيضًا من مؤرخين منحازين. إن رواية «كولونيل الزبربر» صادرة عن دار الساقى 2015)، تمثل أرضية للحوار بينى وبين تاريخ بلدى خلال فترتين: فترة حرب التحرير وفترة المأساة الوطنية. فإنى وجدت المؤرخ فى فترة حرب التحرير لم يملك الشجاعة، لأسباب يطول ذكرها هنا، ليقول ما سكت عنه التاريخ الرسمى. وفى الفترة الثانية «غائبا». ولذا، ستكون الرواية الجزائرية، التى كتبت عن العشرية الدموية، هى مرجع التاريخ. وهذه مفارقة! ■ اعتبر المفكر الفرنسى «بول ريكور» التاريخ سردًا، رغم الفارق الهائل بين المؤرخ والروائى، فكيف ترى التنازع بين التاريخى والسردى، وهل يضغط الأول على الثانى ويضيق الخناق عليه؟ لعل التاريخ، الشفهى منه والمكتوب، هو أكبر منظومة سردية عند إنسان هذه الأرض، منه نهلت فنون التشكيل والموسيقى والرقص والشعر والمسرح والسينما والقصة والرواية. وهو الذاكرة الجماعية لنا نحن البشر، يرتبط بنا لأننا نحن الذين نصنعه. ونرتبط به لأنه بطاقة هويتنا. وإذا كان المؤرخ، فرضا، يسرد الوقائع كما حدثت لأنه ملزم بذلك، مع هذا الهامش الذى يأخذه للتعليق من أجل توجيه القارئ، فإن الروائى قد يقترب منها، لا ليثبتها، كما يفعل المؤرخ، ولكن لينقلها من ثباتها إلى حركيتها عن طريق تخييلها ومن ثَم إعطاؤها حياة تستكمل عناصرها التى أغفلها المؤرخ أو تغافل عنها أو تحاشاها أو طمسها فى النهاية. وهنا تكمن خطورة الروائى على «حقائق» المؤرخ، وعلى التاريخ «المزيف» نفسه. ولذا، فإن العلاقة بين المؤرخ وبين الروائى تظل علاقة تحاور، ليس فيها إقواء من طرف على آخر؛ لأن الروائى لا يسرد، كالمؤرخ، ليثب للقارئ حقيقة ما؛ بل هو يسرد ليدخل فى حوار مع القارئ. ■ فى روايتك الأخيرة» أنا وحاييم» تقوم الرواية على صداقة بين جزائريين أحدهما يهودى والآخر مسلم.. تنتصر لليهودية على حساب الصهيونية.. لماذا المغامرة بفتح ملف الهوية الصعب والمثير للجدل؟ إنها علاقة بين جزائريين، أصلا، من ديانتين مختلفتين. وليس فى نص رواية « أنا وحاييم « انتصار لشىء سوى للإنسان كإنسان: ابن آدم وحواء. أما اليهودية فهى ديانة توحيدية اعتُنقت فى الجزائر قبل عشرين قرنًا. وكان يهود آخرون سيدخلون الجزائر ويستقرون بها، كجزائريين، هم المهجرون والمطرودون من الأندلس والهاربون من محاكم التفتيش، مثلهم مثل بقية المسلمين. كما كان سيدخل الجزائر، مع الاحتلال، يهود من فرنسا وأوروبا صنفوا مع من يسمون بالأقدام السوداء (فى رواية «أنا وحاييم» تفاصيل فى الشأن). أما موقفى من الصهيونية فهو ثابت، لأنى أعتبرها حركة عنصرية غاصبة ومحتلة لأرض كان يتعايش عليها أهل الديانات السماوية الثلاث: فلسطين. شخصيا، لا أعتقد أنى، بكتابة «أنا وحاييم» أكون غامرات، بل أعتبر أنه من مسئوليتى أن أفتح «ملف الهوية»، كما تقول، للتحاور. وليكنْ فى الحوار جدال! فمن الشجاعة أن نقر بأن كثيرًا من اليهود الجزائريين، لما حان وقت الحسم خلال حرب التحرير، اختاروا أن يكونوا جزائريين فرفعوا السلاح لمقاومة المستعمر الفرنسى ومنهم من استشهد وبالمقصلة! ومنهم من عرف العسف والنفى بعد الاستقلال، لأنهم أصروا على أن يبقوا جزائريين بهوية جزائرية. وهذه «حقائق» لا تعرفها، للأسف، الأجيال الجديدة. وقد تكون «أنا وحاييم» إحدى المساهمات فى فتح الحوار. ■ نجحت فى الانتقال من «الوعى القائم» إلى «الوعى الممكن» طبقا لثنائية للناقد لوسيان جولدمان، فى الرواية، باعتبار الأول وعيًا سكونيًا ومتخلفًا، والثانى باعتباره وعيًا متمردًا ورافضًا و«ثوريًا» فى بعض الأحيان.. كيف حققت هذه المعادلة؟ شخصيا، لا أكتب انطلاقًا من مقولات نقدية أو نظرية أو بناء عليها؛ لأن تلك المقولات والنظريات هى خلاصات واستنتاجات من المكتوب نفسه. فنظرية الأدب والكتابة الروائية مشتقة من النصوص الأدبية نفسها. أنا من جيل فتح عينيه على آخر السرود الكبرى. عشت حلم الثورة العالمية فى مواجهة الإمبريالية والصهيونية. وحلم العدالة والاشتراكية فى بلدى. فكانت بداية كتابتى متأثرة بزمنها وفضائها. إن سحر الواقعية الاشتراكية لم يكد أحد من «كتاب اليسار» يتخلص من قبضتها إلى بدايات مظاهر التفكك فى المعسكر الاشتراكى. فكان طبيعيًا أن تنطبع كتاباتنا الأولى، فى القصة القصيرة، ب«السكونية»، لأنها كتابات «ملتزمة». وكان ذلك يحد من انعتاقها. ومع انهيار المشروع الاجتماعى والسياسى فى بلدى ودخول عهد «الليبرالية» التى ستكون مفترسة كان لا بد من إعادة قراءة لوجودى ونقد مشروع كتابتى. فتوقفت لذلك قرابة عشرة أعوام قبل أن أنتقل إلى مشروع مختلف ستكون رواية «تلك المحبة» بلورتها الأولى فى تحررى من قيد «الأيديولوجى»، وفى السعى إلى تحقيق المعادلة، كما تقول، بين الرفض بوعى ذاتى وبين الإسهام فى بناء الوعى المشترك، باعتبار الرواية إحدى وسائل تشكيل ذلك الوعى وتغذية الوجدان. ■ بدأت مشوارك الإبداعى فى نهاية السبعينيات بكتابة القصة القصيرة « فهل كانت القصة مدخلًا لكتابة الرواية؟ جيلى كله، بلا استثناء، مر ببوابة القصة القصيرة ليعبر إلى الرواية. وكتاب الرواية من المؤسسين فى الجزائر وفى العالم العربى عُرف عنهم أنهم كتبوا القصة القصيرة. ربما كانت كتابة القصة القصيرة، بالنسبة إلى، تمرينًا مهمًا جدًا على تشكيل عوالم لها ضوابط وحدود لغوية وبنائية هى التى كانت، كما أتصور، أرضية انطلاقى نحو الرواية. إنه لا بد أن يكون أكثر من كاتب قصة قصيرة، قبل أن يتنقل إلى الرواية، فشل مرة واحدة فى إنهاء رواية حولها إلى قصص قصيرة. وأنت تقرأ اليوم للروائيين تجد، بذوق القارئ النبيه، أن النص الروائى مشكل من مجموعة من القصص المتداخلة والمترابطة والمتضافرة والمفضية كلها إلى إرادة حددها الكاتب بشكل مسبق. ■ هل كتابة رواية فعل مريح يشعرك بالسعادة؟ أم أن الأمر أريح بكتابة القصة؟ إلهى! ما أشقى فعل الكتابة ككل، قصة كانت أو رواية أو شعرا! إنشاء نص روائى لا يختلف عن أى صنعة فى أى مهنة. لذا فإن الأمر متعب عضليا ومرهق عصبيا؛ فلا شعور بما تسميه السعادة إلا فى لحظات قصيرة عابرة حين تقبض على الموضوع بشكل نهائى وحين تبدأ فى مراجعة ما سودته كل يوم، وخلال ذلك غالبا ما تصاب بنوبات من اليأس وحتى من الإحباط أحيانًا لأنك وجدت أن ما كتبته هراء لا يستحق حتى المراجعة الجزئية! فتصمت وتغادر دفترك أو حاسوبك بحثا عن لحظة نسيان، قبل أن تعود إلى وقع ارتباكك وشكوك. ولكن لا تدرى من أين يتجدد فيك هذا الإصرار القاسى على أن تعود إلى النقطة التى توقفت عندها. ولكنى أعتقد، كما يحصل ذلك للكتاب جميعًا، أن أجمل لحظة تشعر فيها بسعادة غامرة، لأنك انتصرت أخيرًا على عناد نصك، هى حينما تشرع فى قراءته، متحررًا منه بعيدا عنه، وقد راجعته المراجعة الأخيرة قبل إرساله إلى النشر. ■ حدثنا عن استراتيجيتك فى الكتابة : هل تبدأ ببناء الحكاية أولاً؟ أم تطرق باب التاريخ بتناقضاته وشخصياته؟ لا استراتيجية لى مسبقة فى الكتابة. فقد أبدأ النص بمشهد قصير سكننى ثم ها هو يتذرى وينتشر. وفى داخله تبدأ ملامح الحكاية تبرز فتطلب من جديد، كلما توسعت، أزمنتها وأمكنتها وشخوصها. إن فكرة رواية « أنا وحاييم»، مثلا، تولدت فى ذهني، وأنا طفل، من مشهد الخنازير المسلوخة عند الجزارين فى سوق المدينة أيام الاحتلال. يبدو الأمر بسيطًا لأول وهلة. ولكن ما أن تضع المشهد فى إطاره التاريخى والأخلاقى والثقافى حتى يشغلك ألف هم وسؤال. على أن ما يواجهنى، مثل أى كاتب فى العالم العربى، ليس التاريخ الملغم وحده ولكن، أيضًا، المحظورات المقننة والمشرعة وغيرها مما تفرضه تقاليد المجتمع. تستطيع أن تقول: إن الروائى فى العالم العربي، وهو يكتب، يكون فى مواجهة منظومات مجتمعه كلها، وهى كلها تراقبه وتحاصره وتمنعه وتقمعه أحيانا. لأن أخطر ما «يهدد» القائم بسلطة القانون والشرع هو أن ينتزع الأدب والفن مساحة لهما فى وجدان القارئ؛ لأنهما القادران على تحويل وعيه من تقبل القائم فى كليته إلى نقده. ■ حصلت كثير من الطفرات فى تاريخ الجزائر الحديث، من انتفاضة أكتوبر 1988،إلى سنوات العشرية السوداء فى التسعينيات، لكن وضع المرأة لم يتغير؟ للمرأة الجزائرية تاريخ عظيم وحافل بدأ خاصة مع دخول العرب الفاتحين (الكاهنة) وبرز مع وقوع الاحتلال (لالة فاطمة نسومر) وسيتبلور أكثر خلال حرب التحرير مع نضال المجاهدات والفدائيات (حسيبة والجميلات وغيرهن...). ولكن المرأة الجزائرية كانت، خلال المحنة الوطنية (العشرية السوداء)، هى التى تحملت، بجسدها وروحها ومشاعرها، عبء ما وقع. فهى التى فقدت الأب والأخ والزوج. وهى التى تعرضت للاغتصاب والاغتيال والتقتيل على يد الجماعات المسلحة، وهى التي، وذلك لا ينسى، من تحدت الواقع الذى كانت تفرضه تلك الجماعات فخرجت إلى العمل وإلى السوق وسافرت. وهى التى كانت أول من وقف على صناديق الاقتراع عندما دعت الضرورة فى خضم المحنة الوطنية. وهى اليوم لا تنفك تناضل من أجل بناء دولة مدنية عادلة. ■ فى كتاباتك بعد صوفي.. ما مصدره؟ النقاد والمهتمون والقراء هم الذين يقولون هذا. وهو أمر يسعدنى، حقا. لأن ذلك البعد يعبر عن إحساس داخلى ينبع من تلقاء نفسه فى ثنايا ما أكتبه. لعل مصدره مما ورثته من أسرتى ومن زهد والدى ومحبة والدتى لى ومن ثقافتى وقراءاتى وتجاربى فى الحياة، وخاصة من رحلتى إلى صحراء أدرار، التى لا تزال قائمة إلى اليوم، حيث كتبت رواية «تلك المحبة» عربون محبة لأدرار التى حضنتنى بعد عودتى من تونس وآمنتنى ومنحتنى ما لم تمنحنى إياه أى منطقة أخرى. ■ برأيك.. هل أخفقت الحداثة الروائية فى الأدب العربى؟ صراحة، أتكبل حين يُطلب إلى الحديث عن الحداثة، فى ربطها بما حققته أوروبا خاصة. إنى لا أعرف كيف أتحدث عن الحداثة فى العالم العربى، لأنى لا أقدر على تحديد مفهومها. إن سؤالك يحيل على نوع من إجراء مقارنة بين ما حققته الرواية الغربية (أوروبا والأمريكيتان) خلال قرون من السرد الروائى وبين ما توصلت إليه، اليوم، الرواية العربية التى عمر تجربتها لا يزيد على قرن. وعليه، فالحديث عن الحداثة فى العالم العربى ينبغى أن يشمل ما بنته المجتمعات العربية بمجهودها هى فى مختلف المجالات التى تقدم للإنسانية إضافة. وإنه لأمر محزن حين ننظر إلى واقع مجتمعاتنا.