تحل علينا هذه الأيام ذكرى ميلاد الكاتب والمحامى المعروف ثروت أباظة صاحب أشهر جملة فى تاريخ السينما المصرية «زواج عتريس من فؤادة باطل»، تلك الجملة التى مازالت ترج أصدائها البيوت المصرية فور عرض فيلمه «شئ من الخوف» حتى فى وقتنا الحالى وبعد تعاقب أجيال على كتابة هذا العمل المبدع . كتب أباظة المئات من المسلسلات الإذاعية بالإضافة الى الروايات والقصص القصيرة، فقد تفرغ هذا المحامى سليل العائلة الأباظية العريقة ليصبح ناسكا فى محراب الأدب العربى حتى سار أحد أعمدته، وكان أبرز أعماله «شيء من الخوف» الذى أحدث زوبعة قوية فور صدوره كحلقات متسلسلة فى مجلة «صباح الخير» فى ستينيات القرن الماضى وحتى انتاجها كفيلم سنيمائى من انتاج الفنان صلاح ذو الفقار، واخراج حسين كمال عام 1969، ولكن وكيل وزير الثقافة آنذاك اعترض عليه، وطلب أن يراه الوزير الذى رأى فيها إسقاطات وتلميحات على الحكم، فطلب أن يعرض على الرئيس الراحل عبد الناصر، الذى كان رده: «لو كنت مثل هذا الرجل لقتلنى الشعب» وسمح بعرض الفيلم. ثم جاء إبداعه الفنى الآخر فى رواية «هارب من الأيام» التى تحدث عنها عميد الأدب العربى طه حسين وقال: «إنها أحسن ما كتب عن القرية فى الأدب العربي»، وما دفع أباظة لكتابتها هو أن عائلته كانت معتادة على قضاء شهرين فى قريتهم «غزالة»، ومن هنا احتك بالفلاحين ودخل فى حياتهم، فلم تعد تخفى عليه خافية من طباعهم، وعرف أن ما يشاع عن الفلاح بأنه ساذج وصف خاطئ فالفلاح المصرى ذكى وحريص، وبناء على معرفته العميقة بالفلاحين كتب رواية «هارب من الأيام»، التى صور فيها مجموعة من الأشرار وهى تروع القرية وتسلب أموال أهلها، وكان هدفه من الرواية هو الحرية والمناداة بالخلاص من ظلم الاستعباد، وتم تحويل الرواية كأول عمل درامى عربى مصرى يعرض من خلال التليفزيون المصرى عام 1962، كذلك تم تحويله الى عمل سنيمائى يحمل نفس الاسم عام 1965. ونال أباظة عن هذه الرواية جائزة الدولة التشجيعية عام 1958، وهذا كان أول تكريم رسمى له . وحينما تقرر أن تتحول روايته الابداعية الثالثة (لقاء هناك) إلى فيلم سينيمائى يتكلم عن الصراع بين المادة والإيمان وعن المصالحة بن الأديان، ذهب إلى شيخ الأزهر عبد الحليم محمود وإلى البابا شنودة ليوافقا على عرض الفيلم، حتى نجح الفيلم نجاحا كبيرا وعبر عن الوحدة الوطنية.
الأدب فى حياة «أباظة»
هو ثروت دسوقى أباظة، ولد لعائلة أدبية وسياسية من أعرق العائلات المصرية، فوالده الأديب دسوقى باشا وعمه الشاعر عزيز أباظة وابن عمة الكاتب الكبير فكرى أباظة، فنشأ ثروت أباظة فى بيت كله شعر وأدب، كذلك عائلة سياسية ووطنية عريقة، الأمر الذى ساعد فى تكوين شخصية حرة متمردة بطبعها، فلم يكن ثروت طفلًا يهوى اللهو واللعب كثيرًا، وإنما كان يصاحب والده فى كل مكان يذهب إليه، فكان يجالس الكبراء والشعراء والأدباء، ولذلك فهو لم يتهيب المناصب فى كبره لأنه نشا بينها. وحصل أباظة على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول عام 1950، وبدأ حياته العملية بالعمل بالمحاماة، أما مشواره الأدبى فبدأ فى سن 16 واتجه إلى كتابة القصة القصيرة والتمثيلية الإذاعية وبدأ اسمه يتردد بالإذاعة، ثم اتجه إلى القصة الطويلة فكتب أول قصصه وهى «ابن عمار والمعتمد بن عباد« وهى قصة تاريخية، ولكن هذه القصة لم تكتمل حينها بل ظلت تبادر ذهنه، وبالفعل كتب قصة عن ابن عمار وكان أسلوبها العربى الرصين سبب فى أن تقرر وزارة التربية والتعليم تدريسها فى مطلع الستينيات. وتولى أباظة رئاسة تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون عام 1974، ورئاسة القسم الأدبى بصحيفة الأهرام بين عامى 1975 و1988 وظل يكتب فى الصحيفة نفسها حتى وفاته. كما أنه شغل منصب رئيس اتحاد الكتاب. وقد تولى منصب وكيل مجلس الشورى، كما كان عضواً بالمجلس الأعلى للثقافة وبالمجالس القومية المتخصصة ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون ورئيس شرف لرابطة الأدب الحديث وعضواً بنادى القلم الدولي. كذلك حصد أباظة عددا من الجوائز، منها جائزة الدولة التشجيعية عام 1958، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ثم جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1982. ويقول ثروت أباظة فى مذكراته «ذكريات لا مذكرات» الصادرة عام 1988 عن دار غريب للطباعة والنشر: «ولدت بالقاهرة عام 1927 فى 28 يونيه وقد كنت فى غناء عن ذكر هذا التاريخ الا اننى اذكره لان ابى لم يشأ أن يقيد ميلادى بالقاهرة وانما انتظر حتى ذهب الى بلدتنا فى الريف غزالة الخيس مركز الزقازيق باقليم الشرقية وقيدنى هناك، ولذلك فتاريخ ميلادى الرسمى المقيد بشهادة الميلاد فى البطاقة هو 15 يوليو 1927 وقد ذكرت هذه الواقعة على بساطتها لابين مدى ارتباطنا بالريف» وأضاف أباظة: «كان أبى أديبا.. وهكذا بدأت القراءة وأنا فى السابعة وكان يرعى بماله وجاهه الشعراء فكان بيتنا لا يخلو من شاعر كبير.. ولهذا اتقنت اللغة العربية اتقانا قل ان يتاح لمن تعلموا مثلى فى غير المدارس المتخصصة فى العلوم الدينية واللغوية وقد قضيت طفولتى الباكرة بحى المنيرة وهو حى شعبي، ثم انتقلت قبيل حصولى على الابتدائية الى حى العباسية وهو حى يجمع بين كل الطبقات، فصراع الطبقات الذى يقولون عنه انما هو عندى اكذوبة كبيرة لا حقيقة وراءها ابدا. تزوجت عن حب من عفاف أباظة ابنة شاعر العربية والمسرح الكبير عزيز أباظة ولنا ابنة تخرجت فى كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية واسمها أمينة، وابن واسمه دسوقى تخرج فى كلية الحقوق وعين معاونا للنيابة وهى أولى درجات السلم القضائي». وأوضح الأديب المصرى أنه لم يجد صعوبة فى نشر مقالاته الأدبية منذ سن 16، حيث كانت أولى تجاربه بمجلة «الثقافة القديمة» عام 1943، كما كان أول كتاب وهو «ابن عمار» الذى نشر عن دار المعارف فى سلسلة عام 1954 وكان فى 27 من عمره، إلا أنه كان يتمنى أن يرى والده انتاجه الأدبى هذا، الا أن توفاه الله فى 22 يناير عام 1952.
تمرد «عتريس»
كان معروف عن ثروت أباظة تمرده السياسي، فبالرغم من أنه ينبثق من عائلة أرستقراطية الا أنه كان من أشد الداعمين لثورة 1952، وذلك وفق ما صرحت به ابنته أمينة أباظة فى أحد حواراتها الصحفية، والتى قالت فيها: «أبى كان مؤيدًا لثورة 23 يوليو، وكان رأيه أن الملك فاروق فى سنواته الأخيرة أضر - أو من حوله - بمستقبل الأسرة المالكة وبالتالى بمصر». الا أنه كان معارضا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقال فى مذكراته : «لم أكتب فى كل ما كتب كلمة واحدة تمجد العهد السابق فى مصر فجزائى اننى لم أعين فى أى وظيفة منذ تخرجى عام 1950 أما جريدة القاهرة فقد كانت ملكا للأمير فيصل وعينى الرئيس السادات رئيسا لمجلس إدارة مجلة الإذاعة عام 1974، ولعله من الطريف أننى حين نلت جائزة الدولة التشجيعية فى أول سنة انشأت فيها عام 1958 عن رواية هارب من الأيام نلت معها وسام العلوم والفنون، فصدرت البراءة به ووظفنى فى البراءة رئيس تحرير مجلة الإعلان حتى أحس حين استيقظ فى الصباح أن لى عملا يمكن أن أذهب إليه». وظهر خلافه مع الرئس الأسبق والتيار اليسارى بشكل كبير فى مقاله الشهير «فى أى شيء صدق؟»، الذى كتبه بعد وفاة جمال عبد الناصر، وكان بمثابة حرب سياسية ضد أباظة، كما أثارت روايته «شيء من الخوف» التى تحكى عن فتاة تدعى «فؤادة» تجبَر على الزواج برجل خارج عن القانون «عتريس»، جدلا، إذ اعتبرها كثيرون انتقادا لحكم عبدالناصر، الا أن وافق الأخير على عرضه فى دور السينما وأصبحت الجملة الشهير «زواج عتريس من فؤادة باطل» رمز يتم استعماله فى كثير من الأعمال الدرامية كلما أراد المؤلف أن يعبر عن الحرية. كذلك خاض ثروت أباظة حربا سياسية شرسة ضد جماعة «الاخوان الإرهابية» فى كتاباته، ففى مقال له فى تسعينات القرن الماضى بعنوان «لا مناقشة للتنابز» نعت الإرهابية ب»الإخوان المجرمين»، وأنهم نواة الارهاب فى الوطن العربي، واتهمهم بارتكاب جرائم بشعة لم ترحم الأطفال، محملا إياهم مسئولية سفك دماء السائحين (فى حادث الأقصر الشهير)، وأيضًا الشروع فى قتل الكاتب الكبير نجيب محفوظ. وكثيرا ما تنبأ ثروت بأحداث سياسية قبل وقوعها، فقد تنبأ بحرب 56 فى اللحظة التى أعلن فيها الرئيس جمال عبد الناصر تأميم القناة، كما راهن توفيق الحكيم على ذلك، كذلك تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتى فى مقال نشره بجريدة الأهرام سنة 1970.
أباظة والأدباء
كان طه حسين يحب ثروت كثيرا ويقرأ جميع رواياته، وكان عندما يتأخر عن زيارته يقابله بهذين البيتين : إن كنت أزمعت على هجرنا/ من غير ذنب فصبر جميل وإن كنت تبدلت بنا غيرنا/ فحسبنا الله ونعم الوكيل أما عن علاقة ثروت بنجيب محفوظ، فتقول زوجته، السيدة عفاف أباظة، أنه يرفع سماعة تليفونه يوميا فى الرابعة مساء ليحادثه، وكان ثروت يعتبره رائدا لفن الرواية، وكان نجيب محفوظ يقول له دوما «لو أن عشرة قراء يقرأون لى مثلك، بكل هذا الوعى، لاكتفيت بهم» كما بدأت علاقته بتوفيق الحكيم منذ طفولته، عندما كان يقرأ كل كتبه، وكان له مكان يجلس فيه بقصر النيل كان يذهب إليه ثروت ليراه من بعيد ثم ينصرف، حتى تعارفا يوما وفوجئ أن الحكيم يسمع تمثيلياته عن أقاصيص العرب، وتوطدت العلاقة بينهم إلى أن اعتبره الحكيم بمثابة ابنه .
أزمة الشرع
توفى ثروت أباظة فى 17 مارس 2002 بعد صراع مع المرض، تاركًا خلفة ثروة مالية وأدبية ضخمة، وعلى الرغم من أن صاحب رواية «شيء من الخوف» والتى تدور أحداثها عن تطبيق الشرع، إلا أنه خالف الشرع فى ميراثه الأمر الذى أحدث أزمة بين ابنته أمينة وأخوها دسوقي.