بقلم: المستشار د. محمد الدمرداش عندما نقلّب في دفتر أحوال التاريخ نستيقن أن آفة الدين ومصيبته في شتي العصور فئتان: فئة أساءت استخدامه، وفئة أتقنت استغلاله. فالتي أساءت استخدامه ضلّلت المؤمنين به، والتي أتقنت استغلاله أعطت الجاحدين والملحدين حجة عليه. ولا ريب أن كلتا الفئتين تبارت في إنتاج صور مشوّهة للإسلام، فأخرجت لنا آراء تكفيرية وجماعات أتقنت امتهان أنواع العنف والإرهاب كافّةً، وحاربت المصلحين والمجددين، واستعذبت شَقّ وحدة المسلمين بإذكاء الخلافات المذهبية وتكفير المخالف ولو في أهون الأمور، وتجييش طائفة علي أخري، مستخدمة سلاح الشعارات الدينية والأحاديث النبوية. وللأسف الشديد، أدي هذا التيار إلي إنتاج إسلام مبني علي تقديس الفقهاء ورفع شعار السلف دون إدراك لحقيقة مواقفهم من القضايا التي عالجوها في زمانهم، فأدي ذلك إلي انقباض دائرة المباح، واتساع دائرة الإلزام، وتجذر التوجس من العقل، والنفور من التفكير، وذلك كله دون أن يزيد من جذوة الإيمان وحرارته في القلب قيد شعرة. وصار هذا الإسلام بعيدًا كل البعد عن الإسلام الحقيقي المبني علي النص القرآني وما يتفق معه من السنة النبوية، حيث تتسع دائرة المباح وتتقلص دائرة الإلزام ويرتفع سقف التكاليف نحو فضاء واسع رحيب من الحرية وإعلاء العقل والتفكير، وكل ذلك دون أن ينقص من جذوة الإيمان وحرارته قيد شعرة. وفي أتون الثورات العربية وفي ظل ربيعها الوارف، يحرز التيار الإسلامي علي صعيد عالمنا العربي نجاحات عدة، صادحاً بقوة من مغربنا العربي ومدوياً في نتائج الجولة الاولي للمرحلة الاولي لانتخابات مصر والمتوقع تعاظمها في المرحلتين الثانية والثالثة . ولا ريب أن الحركات الإسلامية في مختلف البلدان العربية خرجت بصورة أو بأخري من رحم الجماعة الأم، وهي "الإخوان المسلمون" ورغم أن الإمام الشهيد حسن البنا لم يرسم صورة محددة للدولة الإسلامية الا أن معظم الحركات التي ابتنت فكرها علي أدبيات و فكر الإمام البنا وجماعة الإخوان المسلمين تُلح بصورة أو بأخري علي طرح نموذج إسلامي وشكل للنظام السياسي تصفه ب"الدولة الإسلامية". بل وتكفر أي نموذج أو آلية أخري غير ما تطرحه وهو ما أوقعها في صراع مرير وصل للتكفير مع عقلاء التيار الاسلامي من جماعة الاخوان المسلمين وغيرهم الذين يعتمدون نظاماً لدولة مدنية بمرجعية إسلامية، والحقيقة التي تتجاهلها الحركات الإسلامية السلفية المتشددة أن الإسلام الحنيف لم يرسم يوما شكلاً محددًا ثابتًا للدولة أو النظام السياسي، لا في القرآن الكريم ولا السنة النبوية المطهرة. وعندما شكل النبي صلي الله عليه وآله وسلم، حكومتَه في المدينةالمنورة، كان ذلك بتدبيره الشخصي بحسبانها الأنسب لشكل المجتمع البسيط في المدينة، ويجدر بنا التوقف عند تجربة الرسول (ص) السياسية وعلاقته بالممالك العربية المسلمة التي كانت قائمة في عهده. فعلي الرغم من أن الرسول كان يمتلك بلا أدني جدال شرعية سماوية، فإنه أقام دولته في المدينة علي أساس احترام دور الأمة. وتضمنت البيعة التي أخذها من المسلمين: الالتزام بطاعة الرسول وعدم عصيانه في معروف، بالإضافة إلي نبذ الشرك وتجنب السرقة والزني والقتل ومساؤي الأخلاق. ولم تكن البيعة تفويضًا مطلقًا من المسلمين للنبي، أو خضوعًا من طرف واحد لحكم فرد مُطلَق، وإنما كانت أشبه بعقد بين طرفين يستلزم حقوقًا وواجبات لكلا الطرفين، فقد جاء في قصة البيعة التي أسست لدولة الرسول في المدينة أن أحد الأنصار، وهو أبو الهيثم مالك بن التيهان، سأل النبي (ص) قبل البيعة عن موقفه إذا ما قامت الحرب بين قوم الأنصاري من الخزرج واليهود بالمدينة، وعما إذا كان سيبقي معهم أم هو تاركهم، فرد الرسول قائلا: "بل الدم الدم، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم". وبناءً علي ذلك لم يتخذ الرسول قرار الحرب بنفسه، عندما واجه قريشًا في بدر، إلا بعد استشارة وموافقة الأنصار. ولم يكن الرسول يهتم بفرض سلطته السياسية علي القبائل العربية التي كانت تدخل في الإسلام، بقدر ما كان يهمه أمر التوحيد والصلاة والزكاة وتثبيت دعائم الدين الحنيف. ولذلك لم يتدخل (ص) كثيرًا في أمور السياسة المحلية للقبائل والشعوب التي كانت تعلن الإسلام. وإنما كان يخاطب الملوك والأمراء المعاصرين له، ويدعوهم إلي الإيمان برسالته، ويعدهم بالمحافظة علي ملكهم تحت أيديهم. وقد ترك الأمراء والملوك والسلاطين الذين أسلموا في حياته علي ما هم عليه، ولم يطلب منهم التخلي عن سلطاتهم السياسية لسلطته. فعندما أسلم جبلة بن الأيهم، وهو أحد ملوك الغساسنة، ظل ملكًا علي قومه، إلي أن ارتد في عهد عمر، في قصة معروفة. وكذلك عندما أسلم ملوكُ حِمْير أبقاهم رسولُ الله علي مكانتهم، وأرسل إليهم معاذ بن جبل يعلّمهم الدين ويقضي بينهم، وكتب إليهم عهدًا جاء فيه: "هذا عهد محمد بن عبد الله رسول الله إلي معاذ بن جبل وأهل اليمن حين ولاّه أمرهم فيهم... وأن يكون أبًا رحيمًا يتفقد صلاح أمورهم، وإني لم أبعث عليكم معاذًا ربًّا، وإنما بعثته أخًا ومعلّمًا ومنفذًا لأمر الله تعالي ومعطيا الذي عليه من الحق مما فعل، فعليكم له السمع والطاعة والنصيحة في السرّ والعلانية، فإن تنازعتم في شيء أو ارتبتم فيه فردّوه إلي الله وإلي كتابه عندكم، فإن اختلفتم فردّوه إلي الله وإلي الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلكم خير لكم وأحسن تأويلاً". وكذلك فعل مع ملوك حضرموت الذين أمَّرَ عليهم أحدَهم، وهو وائل بن حجر، وأمرهم بالسمع له والطاعة.. وكتب إلي ثقيف الطائف عهدًا بأنه "لا يؤمِّر عليهم إلا بعضَهم علي بعض، علي بني مالك أميرهم، وعلي الأحلاف أميرهم". وكتب إلي عامر بن الأسود الطائي: "أن له ولقومه طيء ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفارقوا المشركين". ومثيل ذلك الكثير من العهود والمواثيق التي تقطع باليقين أن رسول الله (ص)، وهو المؤيد بوحي السماء، لم يفرض شكلاً للحكم أو الحكومة علي من اتبعه، بل ترك أمور الدنيا يصرفها كل مجتمع حسب حاجاته وظروفه. الشاهد من كل ما سبق أن الرسول (ص) لم يكن بصدد تغيير الأنظمة السياسية القائمة بقدر ما كان يهتم بنشر الدعوة الإسلامية، فضلاً عن أن يكون بصدد تشكيل حكومة دينية مشابهة للحكومات اليهودية القديمة التي كان يقودها الكهنة والأحبار، أو مشابهة للحكومات المسيحية التي كان يقودها القياصرة بدعم من بابوات الكنيسة في العصور الوسطي، حيث لم يقرّ الرسول نظام ازدواج السلطتين الزمنية والدينية، ولم يؤسس سلطة دينية كهنوتية كالكنيسة عند المسيحيين، ولم يكِل إليها مهمة منح الشرعية للملوك ولا مهمة محاسبتهم أو مراقبتهم. ونستكمل الحديث عن شكل الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين الجمعة المقبلة بمشيئة الله إن كان في العمر بقية. وكيل مجلس الدولة ورئيس محكمة جامعة الدول العربية