«الشعب يريد تحرير العقول».. يريد الثورة والحرية بكل معانيها ومستوياتها، بعد أن حرم منها عقوداً تلو عقود وهو يسبح في بركة من القهر والاستبداد.. ولأن الإنسان حيوان يفكر، أو بالأحري حيوان يتذكر كما قالها الأستاذ أحمد بهاء الدين رحمه الله.. فإن الحرية والتحرر هما عماد عملية التغيير أو جوهره الذي تبغيه ثورة 25 يناير فبدون العقول المتحررة التي تعم المجتمع والحرية المبذولة من جانب الدولة والحكومة. سنرجع إلي الخلف در» وسندور في حلقات مفرغة متوهمين أننا نتقدم، في حين أننا في حقيقة الأمر نبدل أرجلنا في موقعنا الثابت الذي لم نبرحه بعد! «الشعب يريد تحرير العقول» شعار رفعته الفضائية «التحرير».. وهي التي استمدت اسمها من «ميدان التحرير» أيقونة الثورة الشعبية، ووفقت في انتزاع الشعار من أفواه الملايين المحتشدة ولا نقول من قلوبهم.. والذين يتوقون للحرية توق العاطش سنين عجافاً.. ولهذا سرعان ما يتدافعون.. يثورون، ويغضبون، ويهتفون لمبادئ ومطالب عديدة يكررونها ولم يحيدوا عنها.. وعندما يضغطون بقوتهم العددية الجبارة «المليونية» .. تنفرج الأزمة.. وتتحقق بعض المطالب.. وقد تتحقق بسياسة القطارة، أو التقسيط المريح من «المجلس العسكري» وعلي مراحل.. ولهذا يشعرون بعطش مضاعف، عطش ضاغط، ورغبة جامحة في تجاوز العقبات والعتبات، التي تحول دون تحقيق هذه المطالب دفعة واحدة.. أو إعلان جدول زمني دقيق وشفاف في الالتزام بتنفيذها قبل أن ينفد الصبر ويتشقق الأمل! «الشعب يريد تحرير العقول» نعم.. كثير منا يحتاج إلي قراءة متأنية له.. خاصة هؤلاء الذين ينظرون إلي الاحتجاجات الفئوية، علي كونها إضراراً بالصالح العام، أو كأنها غصة في حلق المجتمع تحول دون انسياب حركته أو دون التسريع بحركة إنتاجه.. لكن الحقيقة أن تلك الاحتجاجات كانت موجودة قبل الثورة، وهي تطالب بحقوق مشروعة وضرورية لأصحابها، بعد أن تفاقمت حالة اهتراء المؤسسات في المجتمع - ولا نستثني منها سوي المؤسسة العسكرية والجيش التي ظلت متمسكة بسلامتها رغم انتشار الفساد المؤسسي فيمن حولها.. بحيث صار المواطن لا يستطيع أن يواجه غولين في آن.. غول المعيشة وارتفاعها مع غول الفساد المعانق له!! ومن هنا جاءت الاحتجاجات بعد الثورة معبأة بمطالب جديدة بعد أن فتحت لها الثورة باب الأمل لكي ينال كل مواطن حقه.. ولعلنا نذكر جميعاً شعارها الأساسي في أيامها الأولي «خبز، حرية، عدالة إجتماعية».. ولهذا فإن هذه الاحتجاجات لا تطالب فقط بزيادة في المرتبات والأجور. وتحديد الحد الأدني للأجور، ولا نقول الحد الأعلي كما أكد عليه علماء الاقتصاد والقانون الذين يبغونها مدنية قائمة علي العدل والقانون.. إنما تطالب أيضاً بتغيير في هياكل المؤسسات المهترائة، وإعادة بنائها علي أسس سليمة، وعلمية، ونظيفة.. بعد أن شابها العطب ونال منها الهرم والشيخوخة كما نال من رئيسها «المخلوع»!! وبالتالي صارت غير قادرة علي الإنتاج لا بالقوة، ولا السرعة المطلوبة، في ظل نداءات شعبية حقيقية وحارة، تبغي النهوض والصعود بالمجتمع المصري لكي ينال المرتبة والمكانة التي تليق به، وسط تحديات إقليمية وعالمية بادية للعيون المبصرة! وإذا ما أخذنا المعلمين علي سبيل المثال لا الحصر.. إنما يطالبون بتوقيع الجزاء الصارم علي كل من يعطي دروساً خصوصية بعد أن ينالوا حقوقهم المادية أسوة بالمؤسسات الأخري. حتي تعينهم علي الحياة المعقولة لا الحياة الرغدة والرفاهية المأمولة. إضافة إلي أنهم يطالبون بتغيير المناهج، وتغيير أساليب التعليم، وهذه وتلك تعتمدان علي تشويه التاريخ الوطني، وعلي التلقين والحفظ دون الابتكار والإبداع. فوق أن في باطنهم ما يشيع الفتنة بين عناصر الأمة لا عنصريها!! «الشعب يريد تحرير العقول» نرددها لكل من يظلم الثورة والثوار الذين لم يتقلدوا أدني مناصب للحكم حتي الآن، وهم ينشدونها دولة مدنية، ديمقراطية، حرة، مبنية علي تداول السلطة.. لكن لا تزال قوانين الانتخابات تضعهم علي هامش المشهد الانتخابي القادم!! ولقد شاعت وانتشرت في أوساط عديدة عبارة «خللي الثورة تنفعكم» لم يقلها الشرطي أو مأمور القسم فقط. وإنما قالها ورددها البائع، وسواق التاكسي، وربة البيت، ناهيك عن الفلول وقوي الثورة المضادة التي تتأسد أمامنا في خطوات واثقة يوماً تلو الآخر. ولأن ما يعنينا هنا هو الشعب البسيط والغلبان، الذي يغير وجهته شطر الثورة والثوار.. فربما لأن حلمه بالتغيير الشامل لم يتحقق بعد.. فمع اندلاع الثورة، وخلال 18 يوماً من عمرها.. تحققت في «ميدان التحرير» المعجزات.. فضلاً عن إقامة المدينة الفاضلة أو «اليوتوبيا» بين جميع الفصائل والفئات.. الأمر الذي جعلها ملهمة للعالم.. وبعد رحيل رأس النظام «المخلوع» اتسع الحلم، وانفرد شراع الثورة ليشمل ويستظل به ال85 مليون مصري.. وصار الحلم قريباً من أناملهم في كونهم سيحظون بحياة من عسل ولبن ساهم في ذلك كثير من العوامل الداخلية والخارجية.. والتي ظلت تتضاعف وتتصاعد بالثروات المنهوبة والمهربة من قبل المخلوع وزمرته.. وتسهل من كيفية الحصول عليها وإعادة توزيعها بالقسط والقسطاس بين جموع الشعب من الفقراء والمحرومين. وقد قرعت قوة الدعاية العالمية والمحلية هذه رؤوس المصريين بشدة كما قرعتها في التاريخ القريب بنفس القوة وإن اختلفت الأسباب.. ففي منتصف «السبعينيات» من حكم «السادات» ظلت الدعاية الموجهة تضرب علي روعة سياسة الانفتاح وعلي الزيارة الأولي لأول رئيس أمريكي لمصر الرئيس «نيكسون» بعد انقطاع وتصادم عبر حكم عبد الناصر - تلك الزيارة المأمولة التي ستحقق للمصريين ما يحلمون به من حياة رغدة ورخاء لا نظير له.. فإذا بها تتبدي علي قحط وحرمان وغلاء في أسعار السلع الأساسية «التموينية» والتي احتج عليها الشعب المصري وانتفض في أنحاء البلاد من أقصي الشمال «الإسكندرية» إلي أقصي الجنوب «أسوان» في انتفاضة شعبية عارمة في 17 ، 18 يناير عام 1977 دفعت «السادات» أن يعلن الأحكام العرفية، وإنزال الجيش إلي الشارع.. وقد أسماها «السادات» انتفاضة الحرامية!! «الشعب يريد تحرير العقول» نعم يتمسك بها العديد من الفصائل الوطنية والأحزاب الوليدة، والائتلافات الثورية.. وهم يدعون إلي مليونية «لاسترداد الثورة» ورفض قوانين الانتخابات.. ورغم أن الثورة لا تزال تخطو نحو شهرها الثامن.. وهو شهر لو تعلمون كما تعلم الأمهات.. خطر ومقلق لا علي الجنين وحده ولكن علي الأم معه. نعم إنه الشهر المعضلة، الذي ما إن عبرته الثورة بسلام تشعر كأنها تسير إلي تحقيق أهدافها دون ملاحقة أو محاصرة لهاث!! لكن كيف تعبره دون تبصر بما يحدث حولها وعلي أرض الواقع. بعد أن خرجت إلي النور «6» أحزاب دفعة واحدة من عباءة الحزب الواحد المنحل!! في حين اختفي قانون «الغدر» في الأدراج والذي يمنع الفلول من القفز علي المشهد السياسي وغيره!! كيف تعبر وألوان الطيف للإسلام السياسي تتمتع بصلاحيات وإمكانيات تفوق الطاقة بطاقة!! كيف تعبر وقد صممت قوانين الانتخابات لتغلب فئات دون أخري.. وهي تشبه الألغاز لرجل الشارع البسيط!! مع الإصرار علي تواجد مجلس الشوري الذي ليس له موقع من الإعراب في ظل الثورة والتغيير المرتجي!! نعم إن الصعوبات حجة وهي تأخذ بعنق القوي الشابة والوليدة.. ولهذا نؤكد ما أحوجنا إلي «تحرير العقول» حقاً وصدقاً، عملاً وفعلاً، لا كلاماً وأناشيد مرسلة لأننا أحوج ما نكون إلي لحظة صدق، لحظة مكاشفة ومحاسبة وشفافية.. إلي لحظة مراجعة محسوبة بميزان حساس من ذهب.. وقبل أن ترجح كفة دون سواها.. ونبكي علي اللبن المسكوب!!