فى محاولة للعودة من جديد، بعد غياب دام ست سنوات متواصلة، عاد مهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبى مقاوما كل العثرات، سواء المحلية والتى تمثلت فى صعوبة الإدارة والتنظيم أو الدولية والتى كان أبرزها إعتذار الكثير من الدول بسبب عدم اطمئنان بعضهم من الناحية الأمنية، لكن برغم ما شهده المهرجان هذه الدورة من أزمات وهجوم متواصل، إلا أنه استطاع النهوض والمحافظة على البقاء حيا بالقدر الذى يحمى إعادة وضعه على خريطة المهرجانات العالمية، حتى ولو لم تكن هذه الدورة فى نفس مستوى دوراته السابقة، لكن كان من الواضح اشتياق الجمهور وتعطشه لعودة المهرجان للساحة المسرحية. اختتم التجريبى اليوم الجمعة فعاليات دورته الثالثة والعشرين بعرض من إخراج ناصر عبد المنعم وإعادة العرض الراقص «يا سم» على خشبة المسرح الكبير بحضور وزير الثقافة حلمى النمنم ورئيس المهرجان سامح مهران والوفود المشاركة، وشهدت هذه الدورة مشاركة متميزة للعروض المصرية، فلم يحدث وأن شاركت مصر بهذا الكم من الأعمال وكان منها عروض «الزومبى والخطايا العشر» إخراج طارق الدويري، «الرمادي» إخراج عبير علي، «روح» إخراج باسم قناوي، «حلم بلاستيك» إخراج شادى الدالي، «الغريب» إخراج محمود عبد العزيز، «القروش الثلاثة» إخراج سعيد منسي، «فراجيل» إخراج أمير صلاح الدين، «نساء شكسبير» إخراج محمد الطايع، «عشم إبليس» إخراج مناضل عنتر، «المتأرجح» إخراج محمد عبد القادر، «الإنسان الطيب» إخراج سعيد سليمان، وعلى هامش المهرجان «العطر» إخراج محمد علام، وبالتالى كان لمصر حضورا قويا هذا العام كما شهدت هذه العروض زحاما جماهيريا كبيرا حتى أن بعضهم اضطر لإعادة عرضه مرة ثانية من شدة الإقبال. بخلاف العروض المصرية، استضاف المهرجان عددًا من العروض الأجنبية التى تنوعت بين عروض مونودراما ومسرح عرائس ومسرح وثائقى وعروض كلاسيكية، ولم تكن العروض بحجم الإبهار الذى توقعه الجمهور، لكنها كانت تجارب وأعمالاً متميزة تستحق الإشادة والتقدير، من هذه العروض والذى كان أكثرهم تميزا عرض دولة مولدوفا «last night in Madrid the» أو «آخر ليلة فى مدريد» لفرقة يوجين يونسكو إخراج فيتاليدروسيس تناول العرض تفاصيل علاقة الرسام الأشهر بابلو بيكاسو بآخر زيجاته، وجاء العرض على لسان بطلته بالكامل، وبرغم اعتماده على سرد قصص وحكايات عن علاقتها بزوجها وعلاقة زوجها بوسطه الفنى وبالطبع تحدثها طوال العرض باللغة الرومانية إلا أن الممثلة تجاوزت الحاجز اللغوى بأدائها المتميز، فلم يحرص الجمهور على متابعة الترجمة الإنجليزية والتى وضعت بشكل سيئ للغاية، وكان حرصه الأكبر على متابعتها ومشاهدة حركتها وانتقالها من انفعال لآخر بتفاصيل سردها لحكاياتها عن زوجها والعلاقة القوية التى كانت تربطهما معا، فاستطاعت وبمهارة شديدة السيطرة على الجمهور بأدائها التمثيلى والحركى على خشبة المسرح، واخترقت قلوب الحاضرين بلغتها الأجنبية غير المألوفة..! كان من بين الأعمال المتميزة والجاذبة أيضاً عرض «ركائز الدم» أو «pillars of blood» وهو إنتاج مشترك بين السويد والعراق للمخرج إنمار طه، اعتمد المخرج فى هذا العرض على الحركة والجسد والإيماءات البسيطة بين شخصيات العمل وتناول من خلاله رحلة عذاب الإنسان وما يلقاه من دمار نفسى ومعنوى نتيجة الحروب التى تشهدها الإنسانية، ارتدى أبطاله أشكال مختلفة من الملابس والأقعنه والتى لم تعبر عن شىء سوى مجرد مسوخ لمجموعة من البشر لا يجمعهم سوى اليأس والعذاب والإحباط، وأكد المخرج فى كلمته عن العرض أنه استوحى الفكرة من كاليجولا لألبير كامو ليس بتقديم المسرحية كما هى أو تعديلها بل هى مجرد تعبير عن أشياء غير منطقية ولا معقولة ومناقضة لحدود الواقع فمن خلال هذا العمل المدهش وغير المتوقع على مستوى تناول الحدث أو حركة الشخصيات على المسرح استطاع المخرج بمصاحبة الموسيقى والمؤثرات الصوتية نقل الجمهور لهذه الحالة غير المنطقية، فمهارة واحتراف شديد انتقل بنا داخل أعماق هذه النفس المعذبة التى عانت الكثير من ويلات الحروب، فالعمل لا تحكمه أحداث متتالية أو منطق فى البناء والترتيب بل هو يسير بغير منطق لظهور وخروج الشخصيات ثم ارتدائهم الأقنعة والملابس الغريبة وكأنه يعبر عن حالة العبث الذى أصبح يعيشه العالم والذى تفوق على أى واقع أو منطق، وإذا كان لا يزال التجريبى محتفظا بالمسابقة لحصل هذا العرض على أفضل عمل غير متوقع..! كان أيضاً من أكثر الأعمال متعة وتشويقا عرض العرائس «موليير» إخراج نيفيل ترانتر لفريق مسرح الرسوم المتحركة فى بوزنان، والذى اعتمد على تقنية تحريك العروسة أمام الجمهور وتفوق فيه صناعه بالأداء والتحريك وكان من أشد الأعمال جذبا بالمهرجان، ويتناول قصة كفاح موليير بالفن ومحاولته البائسة فى الحصول على أدوار عظيمة لكن صحته الضعيفة وعجزه ومن حوله من شخصيات محبطة تحول دون تحقيق رغبته، قدم الفريق نفس العرض بمهرجان المسرح الدولى بمكتبة الإسكندرية، واستطاع التجريبى إعادة استضافته بالقاهرة وقدم العمل تكنيك مختلف فى مسرح العرائس والتحريك، اشترك معه فى هذه الصفة عرض «تحولات حالات الحياة والأشياء» إخراج محمد العامرى التابع لدولة الإمارات حيث استطاع المخرج تكوين تشكيل مبهر بالعرائس والممثلين الذين اختلطت أجسادهم مع أجساد العرائس منذ اللحظة الأولى للعرض، فلبس الممثلون ملابس وأحبال العرائس واتخذوا أشكالها تماما كما لو انهم عرائس حقيقية متحركة، وتفوق هذا العمل فى التشكيل البصرى واستخدام الإضاءة على العرائس سواء الثابتة أو المتحركة بتطور أحداثه، لكن المأخذ الوحيد هو سذاجة الموضوع المطروح الذى تناول قصة مجموعة من العرائس الخشبية أرادوا الثورة على تكوينهم الجسدى كى يحيوا حياة البشر وعندما يقرر أحدهم الدخول فى عالم الإنسان يهلك، فاستخدم الممثلون والمخرج قصة سطحية لعمل تكوين مسرحى جيد ومتميز وكان مختلفا عن الشكل التقليدى الذى إعتدنا عليه بمسرح العرائس. كما خرج جمهور المسرح مستمتعا بالعرض المكسيكى «venom hamlet» أو «حقد هاملت» إخراج ألبرتو سانتياجو من الشكل المغاير والغريب الذى جاء عليه العرض حيث قدم فريق العمل مسرحية «هاملت» أقرب للتراث المكسيكى فى عناصره الفنية منه إلى «هاملت» شكسبير الحقيقي، واعتمد صناع العمل على فكرة تحول هاملت إلى شبح مرافق لوالده يحيا فى أذهان أمه وعمه وحبيبته أوفيليا معبرين عن ذلك بصنع مراسم احتفال بعيد الموتى على المذبح الذى صممه المخرج، وكذلك كان العرض الإيطالى «عشيرة ماكبث» إخراج دانيال سكاتينا أو «clan Macbeth» واشترك العرضان فى تكثيف صراع شخصيات شكسبير حول فكرة الانتقام والطمع والجشع فى السلطة وتخلى الاثنان عن معظم شخصيات المسرحيتين بإستثناء شخصيات الصراع الرئيسية. كان من بين العروض المتميزة أيضاً العرض اللبنانى «بس أنا بحبك» بكسر الباء، وهو عرض حكى للمخرجة لينا أبيض تناول أربع قصص حقيقية لأربعة نساء جمعهن الفشل الذريع فى علاقتهن الزوجية، فجميعهن ضحايا لعلاقات عاطفية مشوهة إما بسبب الخيانة أو بسبب العنف البدنى والمعنوي، حكت كل منهن حكايتها مع زوجها، وتحيطها إطار دائرى لمجموعة أطباق مكسورة أرادات أن تعبر بها المخرجة عما تم تدميره داخل كل واحدة منهن، وأثناء الحكى تحاول إحداهن جمع هذه الأطباق كى تعيد إصلاحها وبنائها من جديد، اعتمد أيضاً العرض على فكرة المسرح التفاعلي، فكان النقاش مع الجمهور جزء من العرض المسرحى بعد انتهائه فلم تشأ لينا أبيص أن تودع جمهورها بشكل تقليدى وتحية عادية، لكنها أرادت سماع من يريد أن يشارك بحكى تجربته أو التعليق على العرض بالسلب أو الإيجاب، وبالفعل هناك من دعم طريقة وأسلوب تناولها للعمل واعترض آخرون، لكن جاءت الفكرة فى المجمل جيدة وممتعة وتم تنفيذها ببساطة وواقعية شديدة وحكت كل منهن حكايتها مخاطبة الجمهور وكأنهن جلسات فى جلسة نميمة نسائية وربما كانت السيدة أم الأبناء الأكثر تميزا فى النساء الأربعة فكانت أكثرهن بساطة وطبيعية..!! شاركت تونس أيضاً بالعرض المسرحى «برج الوصيف» إخراج الشاذلى العرفاوى والعمل مأخوذ عن نص «قطة على صفيح ساخن» لتنيسى ويليامز، صنع المخرج بالإضاءة حالة مسرحية جيدة ومعبرة عن الأجواء الكئيبة والتى أوحت كثيرا بالصراع الداخلى للممثلين ولكن شكلت اللهجة التونسية عائقا كبيرا بين العرض والجمهور فى تلقى ومتابعة أحداثه مما أحدث فجوة بينه وبين الحاضرين لصعوبة تمييز الكلام وعدم وضوحه على الإطلاق، اشترك معه فى نفس الأزمة ومع الفارق الكبير عرض دولة أرمينيا «مرسيدس» إخراج هاكوب غازانكيان فإعتمد على اللغة الأرمينية الخالصة بلا ترجمة تذكر، بجانب أن العرض قائم بالأساس على صراع درامى طويل لقصة شقيقتين هرب والديهما من الإبادة الجماعية الأرمينية عام 1519 ونشأتا فى اليونان محتفظتين بصورة الوطن فى أذهانهم، المسرحية مكتملة العناصر تمام الإكتمال سواء فى الإضاءة أو الديكور أو الحركة أو التمثيل لكن كان ينقصها تواصل الجمهور معها وبذلك تفوقت هنا الأعمال التى لعبت على الصورة أكثر من إعتمادها بشكل كامل على الحوار، بجانب العروض التى استطاعت النجاة من هذه الأزمة بحرفة الممثل وتحكمه فى الجمهور بأدائه المتميز وذكاء المخرج مثل «the last night in Madrid»، فإما أن يتمكن المهرجان من توفير ترجمة جيدة أو يتم استبعاد العروض القائمة على المونولوجات المسرحية الطويلة خاصة إذا كان مستوى التمثيل عاديًا! بالطبع لم يخل المهرجان من العروض الضعيفة التى كانت لا تستحق أو ترتقى للمشاركة مثل عرض «مسرحية إذاعية» إخراج ويزلى روزيبيرا من روندا فلم يكن العمل بمستوى العروض المشاركة أو حتى يحمل أى قيمة فنية أو جمالية تؤهله لذلك، ثم الفيلم الوثائقى «خواريز» إخراج روبن بولندو والذى تناول المأساة التى تعرضت له هذه المدينة بفترة من الفترات، وهو مسرح وثائقى قائم على توثيق أحداث تاريخية وسياسية، ولم يحمل أى إبداع فنى أو متعة تذكر، واعتمد فقط على سرد الأحداث وكأنك تستمع لنشرة الأخبار الصباحية مما تسبب فى عزوف الجمهور وخروج الكثيرون من قاعة العرض فى النصف ساعة الأولى من بدايته، أما العرض الإماراتى «مرثية الوتر الخامس» إخراج فراس المصرى لم يأت بجديد على مستوى القصة أو التمثيل فمن خلال ممثل واحد يتناول المخرج شخصية زرياب التاريخية، لكن ربما يحسب له جودة الإضاءة واللعب بها وصناعة صورة مسرحية متميزة حيث تمكن فى أحد المشاهد من صنع شكل لأوتار العود الذى كان يحارب زرياب لإعادة وتره الخامس، لكن الممثل لم يكن بالقوة التى تضيف للعمل أو الشخصية التاريخية المكررة. واستطاع المهرجان تحقيق نجاح هام على مستوى الورش المسرحية وكان أبرزها ورشة التمثيل ومسرح الجسد التى استمرت يومين على هامشه للمدرب والفنان كارلوس دياز من تشيلى، وطالب المتدربون بتكرارها مرة اخرى، وتسعى إدارة المهرجان حاليا للاتفاق مع المدرب بشكل نهائى على اعادة تقديم الورشة فى وقت لاحق على أن تستمر لمدة شهر كامل، وشارك فى الورشة 16 ممثلاً تدربوا فيها على كيفية التعامل مع اجسادهم والتعبير عن المشاعر والاحاسيس الداخلية بالجسد والتفاعل مع النص، لكن برغم هذه الإضافات الجديدة ومحاولة المهرجان تحقيق نجاح سواء على مستوى تنوع الورش الفنية أو فى اختيار العروض إلا أنه افتقد لحالة الترقب وعنصر المفاجأة التى كانت تميزه على مدار انعقاده طوال السنوات الماضية بسبب إلغاء التسابق فجاءت الدورة راكدة هادئة خالية من التحفز والانتظار، كما افتقد أيضاً لوضع خطة لعمل جولات سياحية للوفود الأجنبية خلال فترة المهرجان والتى كنا فى أمس الحاجة إليها خاصة بعد اعتذار عدد من الدول بسبب عدم ثقتهم فى حالة مصر الأمنية.