منذ أبريل عام 1923 وإعلان أول دستور لمصر، ورغم مجيء هذا الدستور بعد عناء وبعد تضحيات كبيرة من المواطنين المصريين وعقب ثورة عام 1919 فقد كان الدستور ضمن مطلبين أساسيين للشعب المصري قبل الحرب العالمية الأولي، وهما الاستقلال، والدستور . مطلب الاستقلال موجه إلي الاستعمار البريطاني المحتل للبلاد، وهذا المطلب له رجاله وله وجهه السياسي! ولكن أيضاً كانت الحركة في الشارع المصري (الجامعات والمدارس) هي قلاع المقاومة لتنفيذ هذا المطلب الوطني. أما المطلب الثاني وهو الدستور فهذا كان بمثابة حق الشعب من السلطات الحاكمة سواء الخديو أو الملك وأيضاً المندوب السامي البريطاني الممثل لسلطة الاحتلال في البلاد. أما الأحزاب السياسية والتي منوط بها المطالبة بالدستور بل العمل علي إعداد (درافت) أو مشروع لدستور تتفق عليه أطياف الأمة، فنجد أن في هذه الحقبات الزمنية كان حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين هما الأكثر والأعلي صوتاً في المطالبة بالدستور رغم أن السراي والأحرار الدستوريين في شبه قارب واحد لم يعطوا دليلاً واحداً علي أنهما أصبحا قوة واحدة، بل كان الدور الذي يلعبه هذا الحزب، كعصا للسراي في ضرب الوحدة الوطنية والبطش بالحركات السياسية في البلاد هو دور خفي، يبتعد فيه عن المركز المحرك له، وهو الملك! إلا أن بمجيء الدستور الأول للمصريين في أبريل 1923 تهيأت الأحزاب القائمة لخوض المعركة الانتخابية . وتولت وزارة ( يحيي إبراهيم باشا ) إجراء الانتخابات بالنظام الفردي، حيث دخلت الأحزاب الثلاثة (وفد، وأحرار دستوريين، والحزب الوطني، والمستقلون) واكتسح (الوفد) المعركة إكتساحاً لم يسبق له مثيل وجاءت النتيجة مفاجأة لكل المراقبين السياسيين، إلا أن بعض الدوائر لم تتعد عشرين دائرة من مجموع 216 دائرة فاز بها بعض المستقلين من أصحاب النفوذ والإقطاعيات في البلاد . وهكذا تركزت كتلة الشعب تركيزاً ظاهراً في الوفد وزعيمه (سعد زغلول )، ولكن البرلمان الأول الذي عقد دورته الأولي عام 1924 أول مظهر نظامي دستوري لسلطة الشعب، كقوة مؤثرة في الحكم، بل هي القوة الوحيدة التي لها القوة والقدرة علي حكم البلاد، من حيث الواقع نعم !! ومن حيث نص الدستور نعم!! ومن حيث دعوة زعيم الأغلبية (سعد زغلول) لتولي رئاسة مجلس الوزراء (الحكم) نعم!! ولكن وراء هذه المظاهر كلها، كانت هناك قوتان لا يمكن الاستهانة بهما (السراي) (القصر الملكي) وأيضاً سلطة الاحتلال، والمندوب السامي البريطاني في (قصر الدوبارة)، كما أن كبار موظفي الدولة، تولوا وظائفهم ونالوا ترقياتهم، وبلغوا مناصبهم الكبري بكفالة كاملة من سلطتي (الاحتلال والسراي)! ولعل (السراي) كانت هي أول من ضاق بالدستور يوم صدوره، وضاقوا به يوم تنفيذه، وضاقوا به أيضاً يوم أن جاء (بسعد زغلول ) إلي كرسي الحكم (كزعيم) للوفد، هذه رؤية الأمة للدستور الذي جاء لأول مرة في تاريخ مصر عام 1923، حيث لم تقم لحكومة الوفد قائمة في الحكم وتناوب الاعتداء علي الدستور في سنواته الأولي حتي تم إلغاؤه عام 1930 علي يد (إسماعيل باشا صدقي) وحتي عام 1933، وهكذا كان الدستور المصري في مهب الريح، ورؤية الأمة له في هذه الحقبة الزمنية المتقدمة من الحياة السياسية المصرية.