قامت الثورة في مصر، وانقلبت الدنيا رأسا علي عقب، ولاتزال قضية شعر الفصحي والعامية كما هي، ورغم أنهما في قطار واحد، تصر كل منهما علي السير في اتجاه مختلف. وقد أعاد هذه القضية «الأزلية» في الثقافة المصرية إلي تصدر الصورة مرة أخري، إعلان بيت الشعر(بيت الست وسيلة)، عن مسابقة للشعراء الشباب، لاختيار أحسن القصائد التي قيلت في الثورة، بشرط ألا تزيد أعمار المتقدمين علي 25 عاما، وأن تكون القصائد بالفصحي. ولأن تشجيع الشباب يجب ألا ينحاز للون محدد من الشعر، خاصة إذا كانت قصائد الثورة الأكثر عددا والأكبر نجاحا هي تلك التي كتبها شعراء العامية، فعن هذا الشرط يحمل رغبة غير معلنة علي تأكيد سيادة شعر الفصحي، مما أثار الكثير من التساؤلات عند شعراء العامية حول استمرار الفصل المقصود بين الشعر العامي والفصحي، وتمييز أحدهما علي الآخر، واستمرار عقلية المؤسسة الثقافية القديمة. وعند استطلاع رأي شعراء العامية في هذا الإعلان قال الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي: نسبة القصائد الفصحي التي واكبت الثورة وعبرت عنها نسبة لا تقارن بنسبة القصائد العامية، فمعظم قصائد الثورة الرائعة صدرت عن شباب الثورة أنفسهم، وليس من هؤلاء الشعراء القابعين في أبراجهم العالية، هذا من جانب، ومن جانب آخر كنت أعتقد أننا منذ فترة طويلة تجاوزنا قضية الفصحي والعامية، وأننا نحتفي بالشعر في النوعين، ولكن شروط هذه المسابقة، تضع الأمر وكأن شاعرا معينا، قد اختير سلفا للجائزة، وأن الباقي هم مجرد ديكور. وأضاف صاحب قصيدة «الميدان» الشهيرة: كنت أعتقد أيضا أن «بيت الشعر» وأنا عضو بمجلس أمنائه، هو الحضن الكبير لقضية الشعر نفسها، ولكن أري الآن أنه وكأن هناك سلطة أدبية أشبه بالسلطات الحكومية القديمة، تقوم بالبطش، بكل ما أبدعته الثورة وأنشده شبابها، ورأيي أن هذا إجراء شديد الخطأ والخطورة. ومن جانبه وصف الشاعر أمين حداد الفكرة بأنها غريبة قائلا: شرط أن تكون القصائد بالفصحي هو نوع من التخلف الثقافي، وعدم الفهم لطبيعة الأشياء، وعلي من وضعوا هذه الشروط أن يستريحوا، ويريحوا أعصابهم بدلا من إثارة أشياء عفا عليها الزمن، وثبت فشل كل محاولات فصل الشعر العامي عن الفصحي، وكفانا ما لاقيناه جراء تلك السياسات من ابتعاد جمهور الشعر بسبب هذه المعارك الوهمية. وتابع: هناك أنواع عديدة من الشعر تندرج جميعا تحت كلمة «الشعر»، ولا ينبغي الفصل المقيت بينها، وكأن هذا شعر وهذا ليس كذلك، وما أراه في هذه المسابقة لا يمكن وصفه بأنه انحياز لشعر الفصحي، بقدر ما هو غياب للفهم وتصرف لا معني له، فقد سبق وذهبت في أمسية مع رجب الصاوي في «بيت الشعر»، كما أنهم يستضيفون شعراء عامية ويحتفون بهم، ولكنهم يتصرفون بعقلية ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من تغليب الفصحي علي العامية، كما حدث في «هيئة الكتاب» حين كنا في أمسية، فتم تقديم شعراء الفصحي في البداية، ثم قدمونا نحن شعراء العامية بعد ذلك، رغم أن الجمهور ينجذب إلي شعر العامية أكثر ويحبه، وهل سنراهم في المستقبل يضعون شروطا من عينة أنه علي المتقدم للمسابقة أن يكتب قصيدة نثر، أو قصيدة عمودية، أو تفعيلة؟. الشاعر الشاب سالم الشهباني قال: لجنة «بيت الشعر» ليس بها شعراء عامية، جميعهم فوق السبعين وأغلبهم شعراء فصحي، وأري انه من الجهل أن نؤسس لنوع من الشعر علي حساب نوع آخر، التدشين والتبشير لنوع بعينه دون آخر أمر مرفوض، ومن الجهل أن نتحدث في 2011 عن عامية وفصحي، أو أن تظهر مسابقات الهدف منها إقصاء نوع أدبي كان حاضرا بقوة خلال الثورة، وما المبرر أن تكون المسابقة بالفصحي، هذا يردني لفكرة غريبة أراها في الخليج، وهي أن كل المسابقات بالفصحي، رغم أن العامية المصرية هي لأكثر رواجا، يفهمها الجميع، وتلاقي قبولا وحبا من الجماهير، كما انها ابنة البيئة المصرية، في حين أننا لازلنا نتحدث عن الفصل والتمييز بين قصيدة النثر والتفعيلة، والفصحي والعامية، بل أننا لازلنا نتحدث عن أنه زمن الرواية وليس زمن الشعر، رغم أنه لا يوجد بلد يسير علي قدم واحدة. وتابع: فيما يتعلق بالشرط الثاني لا أري فيه مشكلة، ولكن كان من الضروري أن يتم فتح المجال لكل الأشكال، كي تكون المسابقة ثرية، وبها أصوات مختلفة. من جانبه أعلن الشاعر مسعود شومان استياءه من الشروط وقال: أتصور أن هذا نفس المنطق القديم الذي كان متبعا في التعامل مع الشعر، باعتبار أن قمة الهرم الشعري هو شعر الفصحي، في حين أن هذا الهرم سقط تماما حين سقط النظام، ولم يتفاعل مع الثورة وعناصرها المختلفة، خاصة أن شعر العامية أثبت من خلال الثورة وشعاراته المتعددة أنه الأقرب إلي لغة الناس، وتصوير التفاصيل الدقيقة جدا للثورة والثوار، وأن العامية هي الأقرب إلي أذهان الناس وآذانهم. وتابع شومان: قيم الثورة قيم شفوية تتضمن شعارات ونداءات متعددة، وبالتالي اللغة العامية هي الأقرب في الوصول إلي الناس وحمل أفكارهم التي ينادون بها، وربما انعكس هذا علي الأشعار العامية التي قيلت بعضها كان شاعريا كشعارات الثورة، وبعضها كان ثوريا ولكنها كانت تهدف الوصول للهدف مباشرة، بغض النظر عن الجماليات، هي أشعار في النهاية، ولاقت قبولا لدي الجمهور العريض، لأن الشاعر كان مجرد صائغ للشعارات التي يرددها الناس في أبنية وأشكال موزونة، بينما استطاع آخرون أن يزاوجوا بين الطموحات التي استهدفتها الثورة، وبين الذات الشاعرة والسياقات الجمالية المختلفة، فخرجت أجمل القصائد. وأكمل: لقد كان النتاج الأكبر ممثلا في شعر العامية، وبالتالي يصبح مستغربا جدا أن يتم إبعاد شعر العامية، عن المسابقات والوجود في المحافل المختلفة، وأود أن أقول إن شعر العامية لأنه مبعد طوال الوقت علي الأقل علي مستوي النشر والمسابقات الرسمية يتحقق علي مستوي الأرض، وفي هذا فائدة كبيرة بالنسبة له، لان من يكتبون يشعرون بالتهميش، وأنهم غير موجودين في الأنشطة فينزلون إلي الأرض، فيكون حضورهم أبلغ وأقوي من الحضور الرسمي والشعبي. وأضاف: إننا نريد أن ننسي تلك القسمة الظالمة بين شعر العامية، وشعر الفصحي وأن نتعامل مع الشعر بوصفه شعرا بغض النظر عن الوسيط التي يقال بها، من هنا أتصور أن معيار الحكم جمالي، وفي قدرة هذا الشعر علي الوصول إلي الناس.