ظل صنع الله إبراهيم لسنوات طويلة "يتلصص" علي العالم بعين طفل، ليكشف زيف الواقع ويوثقه من خلال العديد من الأعمال التي قدمها للساحة الأدبية طوال مشواره الإبداعي، وتميزت بثراء تفاصيلها وأحداثها وشخوصها، حتي أصبحت علامات بارزة في تاريخ الأدب العربي.. ابتعد عن "وسط البلد" بصخبه ومقاهيه في رسالة غير معلنة تقول: "المقاهي لا تصنع مبدعا"، رافضا في الوقت نفسه الارتماء في أحضان المؤسسة الثقافية الرسمية لفسادها، وتحمل تبعات هذا الرفض. "روزاليوسف" التقته، فكان لنا معه هذا الحوار، حول الثورة وموقف المثقفين منها وروايته الأخيرة "جليد". ما نظرة صنع الله إبراهيم كمثقف لما يحدث في مصر الآن؟ - لا تختلف عن نظرة ملايين الناس بالسعادة مما حدث، والقلق علي الوضع الحالي، والخوف علي المستقبل من مؤامرات أعداء الثورة، أما الفزاعة وخلافه فكل هذا أشياء طبيعية لأنها موجودة في المجتمع، تعبر عن نفسها، ويجب ألا ننزعج من ذلك بل نواجهه، بمعني أنه لو تواجدت تيارات رجعية، لابد من وجود تيارات تقدمية، كل منهم يعبر عن نفسه، وينشب صراع فكري ما بين التيارات المختلفة الموجودة في المجتمع. متي يمكننا القول أن المثقفين قد خرجوا من "الحظيرة" للتأثير في المجتمع؟ - هذا سيتوقف علي درجة الحيوية الموجودة في المجتمع، بمعني أنه لو وجد مناخ ديمقراطي وحيوية سياسية من وجود تيارات مختلفة وأحزاب، فهذا سيسمح للمثقفين بالتعبير عن أنفسهم بصدق وحرية، فلا يضطرون للمنافقة أو الدخول في الحظيرة أو الخروج منها. هل تري أن "الثورة" أدت لاختلاف في المشهد الثقافي؟ - لم يختلف كثيرا؛ لأنه مازال يوجد سيطرة من رموز النظام السابق سواء في مجالي الثقافة والإعلام أو غيرهما وتجري عمليات تطهير، لكنها لم تتم بشكل كامل، فنحن مازلنا نفتح جريدة الأهرام لنقرأ مقالا لإبراهيم نافع، ومكرم محمد أحمد، وصلاح منتصر وعبد المنعم سعيد، ولكل من كانوا أدوات إفساد سياسي وثقافي، فهذا يعني أن مازال الطريق طويلا. هل كنت تتوقع التغيير وقيام الثورة كما قال كثير من المثقفين؟ - كنت أتوقع حدوث انفجار، لكن لم أتصور شكله، وكانت أكثر صورة في ذهني أنه انفجار غضب يكسر ويحطم ويحرق، وفوجئت بأن هذا الانفجار تم بشكل متحضر جدا وتظاهر سلمي، وأغلبية شعبية أدت إلي الوضع الذي نعيشه الآن. كثير من المثقفين نزلوا لميدان التحرير بعد رحيل مبارك في محاولة ركوب الموجة، كيف تراهم؟ - كثير من مثقفي النظام القديم بالفعل فعلوا ذلك، ويتغنون ببطولاتهم وهذا شيء طبيعي جدا، ولا يجب أن ننشغل بهم، بل يجب أن نضع مهام معينة أمام المجتمع يقف معها الناس أو ضدها ونحاسبهم علي هذا الأساس. هل يمكننا القول أن المثقف عاش ثلاثين عاما يراقب المجتمع من بعيد؟ - أظن أن المثقف طوال الوقت كان يلعب دورا ويعبر بقدر إمكانياته وظروفه، والثورة لم تأت من الهواء، بل كان وراءها تراكمات وأعمال مترابطة ومعارضة للنظام السابق منذ سنوات طويلة. يؤخذ علي صنع الله كمثقف ابتعاده عن وسط البلد بمقاهيها؟ - سكني ليس قريبا من وسط البلد كي أتواجد بها باستمرار، فالمسألة الأساسية بالنسبة للكاتب هي مهمة الكتابة وليست الجلوس في "وسط البلد". هل تجربة العمل السياسي والاعتقال ضرورية للمبدع، وما حدود تأثير وفاة شهدي عطية عليك؟ - وفاة شهدي من بين دوافع عديدة وجهتني للكتابة، وليس من الضروري أن يسجن المبدع، لكن الفكرة أنه يوجد تجارب في الحياة مماثلة لتجربة السجن، هي تجارب قوية وعميقة تؤدي لتغيرات في وجدان الكاتب ورؤيته للحياة، كالخدمة في الجيش أو الشرطة، أو تجربة العمل كطبيب، أي كل من التجارب العميقة التي تستغرق عدة سنوات، من الممكن أن تكون محطة للكاتب، وليس بالضرورة السجن، فهو إحدي هذه التجارب. هل يمكننا القول أن مصر كانت في سجن لمدة ثلاثين عاما؟ - ثلاثون عاما من الحكم الديكتاتوري بالطبع سجن، لكن إلي أي مدي الثورة ستصمد فهذا سيتوقف علي الشعب والشباب والنشاط السياسي والديمقراطية، ويتوقف علي أن الجيش قريب يعود إلي سكناته، لكن لو المسائل تحولت إلي ديكتاتورية عسكرية أو إلي إجهاض للثورة أو العودة إلي النظام القديم بأشكال مختلفة إلي آخره سيكون ذلك نكسة، لكن طالما الشعب متيقظا وموجودة في ميدان التحرير، وقت اللزوم، سيكون هناك ضمان لاستمرار العملية الثورية التي لم تنته إلي الآن. كثير من المثقفين الذين سجنوا في عهد عبد الناصر خرجوا من السجون يحبونه، لماذا لم يتحقق هذا في فترات السادات ومبارك؟ - لأن جمال عبد الناصر في الوقت الذي فرض فيه قبضة حديدية علي البلد كان مخلصا لها، ويعمل علي إحداث تنمية شاملة، وأهم من ذلك أنه كان يواجه الأعداء التاريخيين للشعب المصري وهم الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، فهذا كان يشفع له، أي أن موقفه الوطني المعادي للاستعمار، وموقفه لصالح الطبقات الشعبية والخطط التنموية التي كان يضعها للبلد كاملا كان يشفع له اضطراره الإمساك بالحكم بقبضة حديدية، أما من أتوا بعده لم يقدموا أي شيء للبلد، ولم يكن في ذهنهم ولا مطلوب منهم أو هم قادرون أو صالحون لهذه الأهداف، علي العكس فالأنظمة التي تواجدت بعد عبد الناصر كانت تخدم الغرب ولا تخدم الشعب المصري. لماذا تستهويك كتابة الرواية كشكل إبداعي أكثر من القصة؟ - لأنني أهوي الروايات وأحب قراءتها؛ فهي تعطي لي الفرصة لتناول موضوع ضخم من عدة جوانب، لكن القصة محدودة، فالرواية في رأيي أسهل من القصة، وكتابة القصة صعبة جدا؛ لأنك تحاول حصر الأمور جميعها في حدث أو موقف أو لحظة واحدة، أو التعبير عن خط معين من خطوط المشاعر وهكذا، لكن في الرواية تستطيع تناول العديد من الأشياء. لماذا اخترت الاتحاد السوفيتي تحديدا كموضوع لروايتك الجديد "الجليد"؟ - كل ما هدفت إليه هو التعبير عن تجربة عشتها في الاتحاد السوفيتي لمدة ثلاث سنوات كنت أدرس فيها سينما، وشاهدت وسمعت أشياء شعرت أنها من الممكن أن تكون موضوعا للكتابة. هل تغير الوضع في مصر ليسمح بالتعبير عن المرأة بالشكل الذي أردته في "ذات" و"وردة"؟ - هذا حقيقي؛ لأن المسألة اللافتة والجميلة في الأحداث الأخيرة أن هناك وجودا واضحا للمرأة الشابةالجديدة المتخلصة من الكثير من الأفكار والأوضاع الرجعية، وتحدثت مع بنات كثيرة في سن العشرين والخامس والعشرين ووجدت أنهن علي درجة عالية من النضج، وهذا شيء مفرح. كنت مهموما بالإنسان العربي في "نجمة أغسطس"، في رأيك ما مصيره في ظل هذه الظروف؟ - الشعب العربي كله يتحرك من الجزائر إلي اليمن، لتحقيق مطالب تقريبا واحدة، وهي التخلص من الأنظمة الديكتاتورية، والسيطرة علي ثروات البلد دون أن تترك لحفنة من الأشخاص، أو للسيطرة الأجنبية، وإقامة أنظمة ديمقراطية تتيح الحريات المختلفة ومنها حرية التعبير، وهذا شيء جميل. مازال يعتقد البعض أن هناك أيادي خفية وراء حركات التحرر التي تجتاح الوطن العربي، ما رأيك في هذا؟ - لماذا لم يصدقوا!، فنحن في نفس الظروف، والتأثيرات التي أدت إلي ذلك، ففي البداية ما حدث في تونس، ثم مصر، وبعد ذلك تلقف الدعوة أو النداء أو الثورة بقية الشعوب لاحتياجات مهمة في حياتها، فهذه المسائل لا يمكن أن تتحرك من الخارج، رغم أنني مع الإدراك أنه ممكن جدا تواجد أيدي أجنبية لكنها ليست قادرة علي تحريك كل ما نراه، حتي في السعودية، أكثر مكان رجعي في العالم يحدث تغيير؛ لأنها تضم عددًا ضخمًا من المثقفين والمتعلمين الذين لا يقبلون بوضع القرون الجاهلية الموجودة هناك. لو منحت جائزة الرواية العربية من مصر بعد الثورة، هل ستقبلها؟ - الجائزة ليست مقياسا، وهي ليس لها أهمية ولا تؤثر علي عملي، لكن هذا يتوقف علي الظروف، فمن الذي سيمنح الجائزة؟، وباسم من؟، وفي أي لحظة؟، وفي أي وقت؟.