المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»! (2)، وقال صلي الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم. إنه الصحابى الكريم عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-، ولد بعد البعثة النبوية الشريفة بثلاث سنوات، وعندما هاجر كان عمره إحدى عشرة سنة، وفى غزوة أحد أراد أن يخرج للجهاد، فعرض نفسه على النبى صلى الله عليه وسلم فردَّه لصغر سنه، وفى غزوة الخندق ظل يلح على النبى صلى الله عليه وسلم حتى وافق على خروجه، وكان عمره خمس عشرة سنة، واستمر بعد ذلك يجاهد فى جميع الغزوات والمواقع. وكان -رضى الله عنه- يتبع آثار النبى صلى الله عليه وسلم ويقتدى به فى جميع أموره؛ لدرجة أنه كان يتحرى أن يصلى فى كل مكان صلى فيه النبى صلى الله عليه وسلم ، ويسير فى كل طريق سار فيه، رجاء أن توافق صلاته أو مشيته مكانًا صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أو سار فيه، وعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة يستظل بها، فكان عبدالله ينزل عندها، ويتعهدها بالسقى فيصب فى جذرها حتى لا تيبس. [ابن سعد]. يقول عبد الله: كان الرجل فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبى صلى الله عليه وسلم ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبى صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلامًا شابًا، وكنت أنام فى المسجد على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ، فرأيت فى النوم كأن ملكين أخذانى فذهبا بى إلى النار، فإذا هى مطوية كطى البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع صلى الله عليه وسلم لا تخف)، فقصصتها على حفصة صلى الله عليه وسلم أخته وزوج النبى صلى الله عليه وسلم )، فقصتها حفصة على النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: صلى الله عليه وسلم نعم الرجل عبد الله لو كان يصلى من الليل) قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً [متفق عليه]. وكان إذا فاتته العشاء فى جماعة، أحيى بقية ليلته. [أبو نعيم]، وكان لعبد الله مهراس صلى الله عليه وسلم حجر مجوف) يوضع فيه الماء للوضوء فيصلى ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش فيغض إغفاء الطائر صلى الله عليه وسلم ينام نومًا قصيرًا)، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك فى الليل أربع مرات أو خمسًا. [ابن المبارك]. وكان عبد الله من أهل التقوى والورع والعلم، وكان مع علمه الشديد يتحرى فى فتواه، ويخاف أن يفتى بدون علم، وقد جاءه يومًا رجل يستفتيه فى شيء، فأجابه معتذرًا: لا علم لى بما تسأل عنه، ثم فرح وقال: سئل ابن عمر عما لا يعلم فقال: لا أعلم. وقال عنه ميمون بن مهران: ما رأيت أتقى من ابن عمر. وكان كارهًا لمناصب الدنيا، خائفًا من تحمل أعبائها، وقد أرسل إليه عثمان بن عفان -رضى الله عنه-، وعرض عليه منصب القضاء فرفض ابن عمر، وكان عبد الله يحب الحق ويكره النفاق، وقد جاء إليه عروة بن الزبير بن العوام وقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون بالكلام، ونحن نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، ويقضون بالجور صلى الله عليه وسلم أى يحكمون بين الناس بغير الحق) فنقويهم ونحسنه لهم، فكيف ترى فى ذلك؟! فقال ابن عمر لعروة: يابن أخي، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعدَّ هذا النفاق، فلا أدرى كيف هو عندكم؟! وذات يوم رأى رجلاً يمدح رجلاً آخر، فأخذ ابن عمر ترابًا ورمى به فى وجهه وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا صلى الله عليه وسلم ألقوا) فى وجوههم التراب) [مسلم]. وكان رقيق القلب، حسن الطباع، لا يسمع ذكر النبى صلى الله عليه وسلم إلا بكى، وما كان يمر بمسجده وقبره صلى الله عليه وسلم إلا بكى حبًّا وشوقًا إليه. وكان حسن الخلق لم يلعن خادمه قط، ولم يسَبَّ أحدًا طوال حياته، وقد ارتكب خادمه خطأ ذات مرة فهمَّ أن يشتمه، فلم يطاوعه لسانه، وندم على ما همَّ به فأعتقه لوجه الله تعالى، وكان قارئًا للقرآن، خاشعًا لله، وكلما قرأ أو سمع آية فيها ذكر القيامة بكى حتى تبتل لحيته من كثرة الدموع، فعن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16] بكى حتى يغلبه البكاء. [أبو نعيم]. وكان يعظم صحابة النبى صلى الله عليه وسلم ويعرف قدرهم، وكان يخرج إلى السوق من أجل السلام على المسلمين فقط، وكان كثير التصدق وجوادًا كريمًا يكثر الإنفاق فى سبيل الله، وكان إذا أحب شيئًا أو أعجب به أنفقه فى سبيل الله، وكان من أشد الناس زهدًا فى نعيم الدنيا، ومن أحسن الناس حبا لفعل الخير، فيحكى أنه كان مريضًا فقال لأهله: أنى أشتهى أن آكل سمكًا فأخذ الناس يبحثون له عن سمك فلم يجدوا إلا سمكة واحدة بعد تعب شديد، فأخذتها زوجته صفية بنت أبى عبيدة فأعدتها، ثم وضعتها أمامه فإذا بمسكين يطرق الباب، فقال له ابن عمر: خذ هذه السمكة، فقال أهله: سبحان الله! قد أتْعَبتنا حتى حصلنا عليها، وتريد أن تعطيها للمسكين؟! كلْ أنت السمكة وسنعطى له درهما فهو أنفع له يشترى به ما يريد. فقال ابن عمر: لا أريد أن أحقق رغبتى وأقضى شهوتي، إننى أحببت هذه السمكة فأنا أعطيها المسكين إنفاقًا لِمَا أُحِبُّ فى سبيل الله. [ابن سعد وأبو نعيم والهيثمي]. وبينما كان عبد الله -رضى الله عنه- يؤدى فريضة الحج أصابه سن رمح كان مع أحد الرجال فى منى فجرحه، فأدى هذا الجرح إلى وفاته، ودفن بمكة فى سنة صلى الله عليه وسلم 73ه)، وقد روى كثيرًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث روى ألفين وست مئة وثلاثين حديثًا.