لا يزال ميدان التحرير يبعث برسائله العاصفة لتغيير هذا المجتمع، ويثير قضايا أساسية تتعلّق بهذا التغيير . هذه القضايا تقلق بشكل واضح مجتمعا ركّز علي الانتقال السلمي ونجح بما أبهر العالم في ضبط النفس، فكان عدد الضحايا قليلاً رغم إعزازنا لكلّ قطرة دم أريقت، وعدم تقاعسنا عن تقدير شهداء الثورة الذين يحتّلون مكانة عالية في تاريخنا، وكانوا يدركون مقدّما بأن المهمّة العظيمة التي انطلقوا من أجلها هي مهمّة أخلاقية يندر ألاّ تصاحبها تضحيات . وكنّا سعداء الحظّ بقوّاتنا المسلّحة،والتي وضعت أمام تحدّ صعب، مابين مشروعية مطالب الشعب التي قام المحتّجوّن يعبّرون عنها، وما بين الحفاظ علي الأمن والاستقرار، فنجحت وانتصرت ..وأعلنت بكلّ وضوح عندما أسندت لها مهمّة إدارة شئون الدولة والبلاد، عن فترة انتقالية محدودة ببضعة شهور، تتجهّز فيها البلاد لمشروعية وشرعية الدولة الدستورية المدنية الديمقراطية. ومن الطبيعي أن تظهر لنا جميعا وجهات نظر متعارضة حول التطوّر المقبل لبلادنا، وأن نسعي لتحديد إطار للمفاهيم، يمكن للتغيير من خلاله، أن تكون له غايات انسانية ذات معني.ومالم نفكّر في الرسائل التي تصلنا علي هواتفنا المحمولة من المجلس الأعلي للقوّات المسلّحة تناشدنا بإعطاء فرصة للاستقرار،وإدارة عجلة الاقتصاد، فسنبقي بدون اتّجاه ! نتغزّل في سوءات وخطايا وجرائم الفترة السابقة وتحرّكنا نشوة الانتصار دون تقدير للإمكانيات المتاحة أمام قدرة الإنجاز والخلق الفرديين.امّا كون الفقر وضعف المرتبات وسوء الأحوال المعيشية وسوء الخدمات يقضّ مضاجع الملايين من المصريين فتلك حقيقة لانعلنها اليوم لكنّ الكثيرين شاركوا في إثباتها منذ سبعينيات القرن العشرين، وللمصريين ما يشبه الثورة في 18 و19يناير في عهد السادات ضدّ هذه الأوضاع. لم يكن 25يناير وقفة احتجاج أخري، لكن تجمّعت ظروف محلّية وعالمية لنضيف شعورا جديدا بالوعي بالذات ولّدته ثورة شعبية حقيقية سمحت لنا بأن يري كلّ منّا نفسه في مرآتها. رئيس يتنحّي،وحزب حاكم تسقط كلّ ادّعاءاته،ومبانيه تعرّضت للحرق، وتلاشي حرسه القديم والجديد، وانكشفت عورات التزاوج بين المال والسلطة، ووقع وزراء ورجال أعمال تحت طائلة القانون، وحصرت كمّية الأموال والأراضي والحقوق التي نهبت، وأدخل وزراء ورجال أعمال تحت ذمّة التحقيق إلي السجن، ووضعت أحزاب المعارضة علي المحكّ، وأعليت قيم الانتقاد الموضوعي والمعارضة الحقيقية، وأسقطت وأحرجت قيم التسبيح والممالأة، وأدخلت جماعة الإخوان إلي اختبار حقيقي لنواياهم. كلّ ذلك يحرّك جهدا إراديا، يناشدنا المجلس الأعلي للقوّات المسلّحة، ويخرج علينا رئيس الوزراء مستخدما أسلوب خطاب جديد، يعتذر،ويقول للذين يخاطبهم من الشباب والصحفيين " حضرتك "، ويوفّر اعتمادا ماليا بالمليارات ليعوّض أسر الشهداء ويقرّر علاوة شهريةللموظّفين وأصحاب المعاشات، يربط بين وقفة الغضب علي الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، وبين اهتمام يبدو واضحا بإمكانيات تحسين الأداء الاجتماعي ككلّ .. وظهر الشباب يكنس ميدان التحرير ويزينه، وقام بجمع القمامة وهاهو مستمرّ في طلاء بوردورات الشوارع يبشّر بتفجير الطاقات الكامنة والتي طالما كبتت نحو تقاليد وقيم جديدة . هذا الجهد الإرادي يتوجّه نحو مهمّة رئيسية، هي إقامة الدولة التي سيقع علي عاتقها حلّ المشاكل القديمة قبل أن تواجه طرح تحدّيات جديدة . أمامنا أمّية نسبة كبيرة من الشعب، وأمامنا بيروقراطية هائلة في عقول الأفراد والمؤسّسات،وأمامنا جذب 73% من الجماهير إلي صناديق الاقتراع كضمان أساسي يستحيل معه التزوير . فإذا ماتفكّرنا في مطالبنا وإرادتنا من أجل تحسين أحوالنا، فعلينا أوّلا أن ننشي الدولة،نختار الدستور وننتخب الرئيس والبرلمان وتتشكّل الحكومة التي ستأخذ علي عاتقها النموّ الاقتصادي،وملافاة الشعور النفسي بالحرمان في العلاقة مع ثروة مجتمع كانوا يدّعون فقره،بينما يحصلون هم من خيراته علي المليارات والقصور والمزارع والمنتجعات والطائرات الخاصة. غير أنّ أهمية حماية قيام الجمهورية الجديدة لاتقتصر علي إبقائنا في ظروف أفضل علي قيد الحياة،هناك نهوض للآمال الاجتماعية " ارفع يامصري راسك فوق " لامن أجل أنّ حبل المشنقة قصير، كما كنّا نهزأ من الشعار ونحن نعذّب في السجن الحربي،ولكن لأن ّ الحرّية أصبحت خيارا متاحا يؤذّّن بالتقدّم الاقتصادي وإصلاح التعليم وازدهار البحث العلمي.