نعم إن ما حدث في الخامس والعشرين من يناير يعد وبكل المعايير ثورة شبابية شعبية، وأن هناك ما يشبه الاجماع داخل مصر وخارجها علي أنها ثورة تتميز بالنقاء والطهارة، وعمق الولاء والانتماء، وتأكيد سلمية ومدنية هذه الثورة بكل ما تنطوي عليه من قيم وأخلاقيات نبيلة، ومن حب وتسامح، رقي وتحضر، وأنها باتت تشكل المثل والنموذج، ولم لا؟ ويطالب الرئيس الأمريكي باراك أوباما - وكما نشر - شعبه بأنه «علينا أن نري أبناءنا ليكونوا مثل الشباب المصري»، ويقول ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني «علينا أن نفكر جدياً في تدريس الثورة المصرية في المدارس». وكم كان رائعاً وحضارياً أن يقوم شباب الثورة علي اختلاف الأعمار والفئات والمستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بعمليات التجميل والنظافة ليس فقط في ميدان التحرير، وإنما في كل الأماكن، وفي العديد من المحافظات، مما كان مدعاة لاعجاب قناة «سي. إن. إن» الإخبارية، حيث تقول: «إنه ولأول مرة نجد شعباً يقوم بثورة، وينظف الشوارع من بعد». أما ما ترتب علي قيام هذه الثورة، وما يتوقع حدوثه مستقبلاً فحدث عنه ولا حرج، بداية من سقوط رموز الفساد، ووضع أجندة لحساب المفسدين والعابثين بمقدرات الوطن، الناهبين بخيراته وثرواته. وهذا ليس بجديد علي مصر، فما قام به شباب ثورة 25 يناير إنما يشكل امتداداً لنضال الشعب المصري عبر تاريخه الطويل، وهو الآن - يقول برليسكوني رئيس الوزراء الإيطالي - يقوم بكتابة التاريخ من جديد. بل إنهم يعدون - يقول الرئيس النمساوي هاينز فيشر - أروع شعب علي الأرض، ويستحقون جائزة نوبل للسلام. باختصار: ثورة أثارت اعجاب العالم كله، لتحضرها ورقيها، وسمو ونبل أهدافها من تحقيق للعدل الاجتماعي والحرية والديمقراطية، ومحاربة الفساد وفي كل المواقع. لكن - وهذا هو المهم - هناك من يحاول تشويه الوجه المشرق لهذه الثورة، بل يحاول اغتيالها بأساليب رخيصة، وتحقيقاً لأهداف أيديولوجية فئوية، أو لركوب الموجة، تحقيقاً لمصالح خاصة، وتصفية الحساب وفيما يلي بعض من هذه المخاطر المشوهة للوجه المشرق لهذه الثورة البيضاء. 1 - محاولات التوظيف الأيديولوجي لثورة الشباب، وعمليات الخداع والتزييف من قبل بعض من يحاول ركوب الموجة من تلك الوجوه القبيحة، والعميلة، ومن تلك القيادات الدينية المعروف عنها المراوغة والخداع، والعمل وفق مبدأ «التقية» الذي يظهر خلاف ما يبطن، انتظاراً للفرصة المواتية للانقضاض والهيمنة. 2 - عمليات التشكيك وتصفية الحسابات والتخوين والنفاق، والتي باتت تهدد هذه الثورة، وتفقدها رسالتها النبيلة، خاصة أنها تنال من سمعة من تحاك حولهم الاتهامات والتشكيك، واغتيال سمعتهم. وهذا يذكرنا بمحاكم التفتيش التي يقوم بها البعض من منعدمي الضمير والأخلاق وبأساليب قذرة تنال من الأبرياء واتهامهم بالباطل - كما أن هذا يذكرنا بما قام به «جوزيف مكارثي» في خمسينيات القرن الماضي، حيث استغل محاربة الشيوعية في الولاياتالمتحدةالأمريكية وباعتباره نائبا في الحزب الجمهوري الحاكم قام بتوجيه الاتهامات لكل القوي الثورية وللعديد من المثقفين وأساتذة الجامعات واتهامهم بالشيوعية مما شكل وقتها جريمة ضد الإنسانية وعرفت فيما بعد «بالمكارثية» والتي باتت تشيع في العديد من المجتمعات بعد ذلك ونشاهد بعض مظاهرها الآن من عمليات التشكيك والاتهامات والتخوين دون دليل بل وصل الأمر حد التخوين بين أبناء المهنة الواحدة وفي مؤسسات من المفترض فيها التحضر والرقي بحكم نبل مهامها ورسالتها. 3- وربما الاشد خطورة من هذا وذاك تلك الإضرابات والاعتصامات المستهدفة تحقيق مصالح فئوية والتي نالت كل المؤسسات والهيئات بل وتلك التي تتصل بالحياة اليومية للمواطنين كالبنوك والسكك الحديدية والمستشفيات ولا تقف خطورة هذه الاعتصامات والاحتجاجات والإضرابات عند حد الخسارة الاقتصادية الفادحة وإنما تمتد لحياة الناس وتعطيل مصالحهم مما يفقدهم الحماس للمشاركة في التغيير والوقوف إلي جانب الثورة. نعم هناك حقوق ومصالح ومظالم عاني منها معظم المواطنين وفي كل المواقع لكن لا يمكن العمل علي التغلب عليها بمثل هذه الاعتصامات والإضرابات أو بتعطيل المصالح وإنما بحاجة إلي وقت وإلي العمل بشكل مؤسسي يحمي مصالح الناس ويجنب المجتمع تلك الخسارة الاقتصادية الفادحة. نعم يجب الحساب والمساءلة لكل مفسد ويتر كل من شارك في الفساد الذي عانينا فيه لكن علينا فالوقت نفسه أن نتجاوز المصالح الخاصة وتصفية الحسابات في هذه المرحلة الحاسمة في تاريخنا المصري وعلينا أن نعي جيدا ما طلبته القوات المسلحة ومجلسها الأعلي من أن استمرار الخسائر الناتجة عن الاعتصامات والاحتجاجات قد يؤدي إلي انهيار اقتصادي يستحيل معه تحقيق مطالب المحتجين والمعتصمين. نعم إن من حق أي فئة أن تطالب بما تراه حقا لها ولكن هذا ليس وقت تحقيق المنافع الخاصة ولا تصفية الحساب ولكنه وقت العمل من أجل البلد فالضمانة الوحيدة لنا جميعا كشعب في هذه المرحلة هي الجدية في الأداء والحفاظ علي هيبة الدولة والبعد عن المصالح الخاصة وتصفية الحسابات. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجهنا الآن حفاظا علي إنجازات ثورة الشباب وحفاظا علي مصر ومكانتها الدولية والله الموفق.