تخالج مصر آمال عريضة.. شعبها ممتلئ الآن بالأماني.. والأحلام الكبيرة.. ولكن هذا يوازيه في ذات الوقت قدر مهول من المعوقات.. سواء تلك التي تفجرها الفوضي.. أو المطالب الفئوية التي انطلقت كلها في وقت واحد.. أو عملية تصفية الحسابات والإحساس الانتقامي الذي ألم بفئات مختلفة في مجالات عديدة. لا أحد يعترض علي إعلان المطالب.. ولا يمكن لشخص عاش أيام 25 يناير.. سواء كان مشاركا فيها أو متابعا لها أو حتي غير مؤيد لما كانت عليه في البداية.. إلا أن يؤمن ويرسخ إيمانه بأن الأمة قد تغيرت.. والشعب تبدلت مواصفاته.. وأن القيم الإنسانية الأساسية صارت قناعة جماعية.. وفي صدارتها حق الناس في أن يقولوا ما يؤمنون به. أختلف أو أتفق، فإن 25 يناير كانت ثورة بالمعني السياسي الكامل، أدت إلي تغيير صورة البلد برمته.. أنهت مسيرة نظام.. وأدت إلي حل تشكيل مؤسسات دستورية.. وعطلت الدستور.. وأطلقت حربا ضد الفساد.. وطالبت بالعدالة.. وأرادت إعادة صياغة علاقات المجتمع.. ثم أوكلت تلك المهمة بنداء من الشارع إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة.. وحين أصبح هذا في محيط قرار الرئيس فإنه تخلي عن منصبه.. وأوكل للمجلس الأعلي مهمة إدارة البلاد. هناك ثقة كبيرة جداً في الجيش.. يساندها تراثه وتاريخه وإنجازه وقدرته.. أضف إلي ذلك ما تجلي من حكمته وعقله الذي يدير الموقف العصيب بتريث وبعد دراسة وبعمق يراعي مصالح البلد.. مع إعلانه المتكرر أنه لا يطلب سلطة ولا يريد موقعاً.. وأنه سوف يسلم السلطة إلي من ينتخبة الشعب.. برلمانيا ورئاسيا. ولأننا نثق في الجيش، وكما كتبت بالأمس في إطار أنه يقود (العبور السياسي) للبلد.. فإن علينا أن نعينه.. لقد ختمت مقال الثلاثاء بأنه لا يمكن للجيش أن يحقق الأهداف الوطنية العريضة إذا كانت هناك ثغرات في الصف وطوابير خامسة وحروب في الجسد المصري.. وحتي نعين القوات المسلحة في أن تحقق لمصر الانتقال إلي ضفاف جديدة فإن علينا أن ننتبه إلي مجموعة من الملاحظات: هذا وقت مصر كلها.. لا بعض فئاتها.. هذا زمن يجب أن نتوحد فيه جميعا.. لا نحارب بعضنا.. سقط النظام.. وكان له مؤيدوه ومعارضوه.. ويفترض الآن أن الكل يقف في صف مصر.. التي لا يختلف علي تأييدها جميع المصريين أيا ما كانت موقعهم واتجاهاتهم ومناصبهم.. ومن ثم فإن حروب تصفية الحسابات وعمليات الانتقام لا تحقق المناخ الذي يمكن من خلاله أن نعين القوات المسلحة علي أداء مهمتها.. نريد هدنة مجتمعية.. إلي أن يحين وقت الفصل في القدرات وتحديد المواقع من خلال آليات الانتخاب والإجراءات التشريعية السليمة. سقط النظام ولكن الدولة لم تسقط.. مصر كدولة كما هي.. والجيش هو عصب هذه الدولة.. يقوم الآن- وفق التعريف السياسي الدقيق لمعني الدولة- بإدارة البلد.. الذي له شعب.. وله أرض.. وكي تبقي الدولة علي جميع أبناء الشعب التوقف عن التناحر.. والتطلع إلي أيام مقبلة.. يجب علي الجميع أن يبذل فيها الجهد الواجب حتي ننجو من طوفان قد يطيح بكل شيء. تخلي الرئيس مبارك عن موقعه.. وقد كان هذا واحداً من أحكم قراراته.. وحين فعل فإنه أنقذ البلد من وضع خطير.. ومن حرب أهلية.. إذا جاز استخدام هذا التعريف.. ويحسب له ذلك تاريخياً.. ويحسب له كذلك أنه بقي في أرض بلده.. لم يفر منه.. وقد كنت من أبرز مؤيدي الرئيس مبارك.. ومن واجبنا أن نقر بأنه أضاف الكثير جدا لهذا البلد.. وصنع له الكثير في ال30 عاما الماضية.. وبالتأكيد هناك أخطاء سوف يحين موعد تقييمها.. ولكن لا يمكن لشعب أصيل أن يطوي صفحة من تاريخه بأن يقوم بعضنا بالثأر من حاكمه.. الذي حقق له الكثير عسكرياً وسلمياً.. وقد وصفه البيان الثالث للقوات المسلحة بأنه (بطل الحرب والسلام). أخطأت الشرطة.. لكن خطأها لايعني أنه لا ضرورة لها.. ومنذ اليوم الأول لتولي الحكومة الحالية قلت إن (الأمن أولاً).. وفيما بعد قلت بوضوح شديد بعد أن طُلب الجيش للخروج إلي الشارع لتعويض ما جري من الشرطة (إن الجيش ليس بديلاً للشرطة).. الدبابات لا يمكن أن تصون البيوت من السرقة.. والمدرعات لن يمكنها أن تطارد البلطجية في الشوارع.. ومن ثم فإن علينا أن نعين الشرطة علي أن تعود إلي مواقعها.. وأن تصلح نفسها.. وأن تصحح أخطاءها.. وأن تقوم بدورها.. هذا أمر حيوي ومهم للغاية.. ومن أجل المجتمع.. وتحقيق لمناخ يؤدي إلي تنفيذ مطالب ثورة 25 يناير.. وهذا موقف لا يعني أبدا أن علينا أن نسكت عمن أخطأ.. بل إن محاسبته واجبة. يضج المجتمع بحديث الفساد.. ونداءات الحرب عليه.. هذا حقيقي ولا بد من تلبيته.. وقد اتخذت القوات المسلحة الإجراءات القانونية لمنع هروب من يريد أن يهرب ووقف تهريب الأرصدة.. ولكن الحرب علي الفساد لن تحقق نصرا في يوم أو أشهر.. والمطلوب أن ننتظر تحقيقات النائب العام.. وأن نعطي القانون الفرصة.. وألا نعتقد أن البلد كله فيالق من اللصوص.. ففيه الصالح والطالح.. والصالح بالتأكيد أكبر بكثير من الطالح. لدي كثير من الفئات مطالب حقيقية لا بد من الإنصات لها.. عمالاً ونقابيين وتجاراً وفلاحين وموظفين وغيرهم.. ولكن من قال إن كل هذه المطالب يمكن أن تلبي في لحظة.. لا بد أن يعود الاقتصاد إلي دورانه كي ننتج وكي تكون هناك موارد تحقق تلبية للاحتياجات.. وإلا فإنه إذا وقف الجميع ليطالب بدون أن يعمل فلن يكون هناك ما يلبي أياَّ من المطالب. إن علينا أن نعين أنفسنا من خلال إعانة القوات المسلحة علي إدارة الأمر.. وأعتقد - كما يؤمن بذلك الجميع - أن للصحافة دورا كبيرا في هذا.. فهي قيادة الرأي وهي كذلك منابر الصراع والتعبير عن المطالب.. ولا بد أن الصحافة سوف تعي أن عليها مهمة كبيرة كي تعين الجيش وتجسد الثقة فيه. و«روزاليوسف» سوف تبدأ بنفسها. www.abkamal.net - [email protected]