"بيدي لا بيد عمرو" هي المقولة الأصح للتعليق علي فشل الحركات الماركسية المصرية منذ انطلقت وحتي سبعينيات القرن الماضي. جينارو جيرفازيو الباحث الإيطالي الشاب يهدي رموز الحركة كتابا يعد من أهم وأقوي التنظيرات الاجتماعية والسياسية التي تقوم بها أدبيات التأريخ لليسار المصري. ينطلق بحث المؤلف الذي استغرق ستة أعوام عن "الحركة الماركسية في مصر (1967 - 1981) من سؤال جوهري: لماذا اختفت الحركة الماركسية في أقل من عشرة أعوام؟ ويفسر ذلك بقيام اليسار بعملية "إخفاء ذاتي". اتباعا لمنطق كتابة التاريخ من الهامش، ومحاولة وضع رؤية بديلة لتاريخ الحركة الماركسية في مصر التي قادها المثقفون في فترة ما بين النكسة واغتيال السادات، ينسج أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر بجامعة "ماكوري" بأستراليا خيوط "قصة منسية بفعل أبطالها في كثير من الأحيان"، هدفه هو اجتياز الحاجز التاريخي والزمني لتاريخ الحركة الماركسية في مصر التي وضعتها أقلام كثيرة عربية وغربية عند تأريخها للتجربة. أصل هذا الكتاب الصادر حديثا عن المركز القومي للترجمة رسالة دكتوراه من كلية الدراسات الشرقية العريقة بجامعة نابولي، تحلل بعد مرور ثلاثين عاما علي انتهاء التجربة أفكار وممارسات المثقفين العرب والمصريين بعد هزيمة 1967، ويعيد تفسير بعض الأحداث حتي بداية الثمانينيات، خصوصا بعد الاختيارات الدراماتيكية التي قام بها السادات في السياسة الداخلية والخارجية. أما الفرضية الأساسية التي يسير عليها المؤلف هي أن تاريخ اليسار المصري بمختلف اتجاهاته ليس مجرد "تاريخ بديل" إنما جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر الحديث منذ النكسة وحتي وفاة السادات، (1967 - 1981) وهي الفترة الزمنية للدراسة. وينتهي إلي أن قراءة سيرة الماركسية المصرية في الفترة ما بين النكسة واغتيال السادات ممكنة من حيث هي "تاريخ هزيمة" و"انكفاء علي الذات" سواء في الممارسات أو الأفكار النظرية والبرامج. الحقيقة التي توصل إليها جينارو من المناقشات مع أبطال الحركة الماركسية وأطرافها، أن التراث الماركسي أعطي أولوية للصراع الوطني والقضية الوطنية ومطالب التحرير علي حساب القضية الاجتماعية. ويستنتج المؤلف أن موضوع "الخيانة الوطنية" يمثل عنصرا أساسيا في تفسير اغتراب الجماهير عن اليسار، وكذلك في محاولة فهم طبيعة الأزمة الداخلية للمنظمات الماركسية والتي أدت إلي حلها، والأكثر من ذلك يمكن تفسير النمو السريع للمنظمات الإسلامية في السياسة والمجتمع المصري علي إثر الزيارة الساداتية لإسرائيل و"الصلح" معها (1978 - 1979). إذن يعتبر المؤلف مبادرة السلام التي قام بها السادات في 1977 كانت "لحظة الحقيقة" للمعارضة الماركسية، بعد أن ضحوا بالقضية الاجتماعية في سبيل القضية الوطنية. ومن ثم انسحبت الجماهير والتفت حول الشعارات الإسلامية وبرامج "الإخوان المسلمين" التي لعبت علي وتر الاحتياجات الاقتصادية. يقول المؤلف إنه منذ عام 1952 رسمت الأحداث السياسية أكثر من صورة لمصر. إلي جانب "مصر المصريين" أصبحت هناك مصر أخري هي "مصر مرآة العرب" ومصر ثالثة ل"الاستعمال والاستهلاك"من قبل المراقبين والدارسين والصحفيين والسياسيين الغربيين. ومصر الأخيرة تلك "ملونة" وفقا لوجهات نظر هؤلاء، خاصة عقب ظهور "الطليعة الاشتراكية في العالم الثالث" و"المركز المستقبلي لنشر الشيوعية". وعلي هذا الأساس تمثل هذه الدراسة محاولة أولي لإدخال "التاريخ الخاص" بالحركة الماركسية ضمن التطور التاريخي للمجتمع المصري في الفترة موضوع الدراسة. يشير جينارو إلي نقطة مهمة وفاصلة في تاريخ اليسار المصري، كانت مع عام 1965 وهو بتعبيره "الحد الفاصل للدراسات حول الماركسية المصرية"، ومن هذه النقطة تبدأ القصة الرئيسية للكتاب. قامت الناصرية بقمع الماركسية بشدة، ثم حاولت استمالتها عن طريق ضم المناضلين الماركسيين في الاتحاد الاشتراكي (التنظيم الناصري الوحيد) مقابل حل المنظمات الشيوعية وكان ذلك في 1965، ومن هذا التاريخ "مفتاح لتاريخ الحركة" بداية النهاية للماركسية المصرية، وبعدها تتوالي الأحداث السياسية الجسيمة التي تصاعدت معها أفكار وممارسات اليسار المصري. الكتاب ضخم، يقارب ال400 صفحة، وأبحاثه طويلة، أربعة فصول تتبع تطور حركة الماركسية المصرية في ثلاث مراحل، أوجها ونجاحها كانت مع المرحلة الثانية في الأربعينيات "الفترة الذهبية لليسار المصري". أما الاستخلاصات الرئيسية فمنها أن أي قراءة ولو سطحية لمسيرة الشيوعية المصرية تظهر درجة شديدة من التفتت والتعددية، بسبب الميل المتواتر إلي الانقسام الداخلي باعتباره العلامة المميزة للماركسية المصرية منذ العشرينيات وإلي يومنا هذا. ويعدد المؤلف الميول الثلاثة الأساسية للمنظمات الماركسية في مصر أو "الخطيئة الأصلية للماركسية المصرية": الميل إلي الانقسام والتشرذم الداخلي والصراعات علي حساب النتائج، وندرة الاتصال بين المناضلين الشيوعيين والجماهير، والبروز المطلق للمثقفين الماركسيين. إضافة إلي وجود عناصر من الأقليات الإثنية والدينية احتلت القيادة في الحركة، وهو الأمر وفق نظر المؤلف الذي يفسير لماذا لم تصبح الماركسية مطلقا وإلي يومنا هذا حركة جماهيرية؟ يتحدث المؤلف عن سياسة الاستيعاب المتبادل ما بين النظام والحركة الشيوعية، أو سياسة تذويب الثلوج فترة عبد الناصر، ينتقل بعد ذلك إلي تحليل أحوال الماركسية في مصر السبعينيات، وظهور النشاط الطلابي بقوة والذي يطلق عليه المؤلف لقب "يسار تلقائي" بسبب السهولة التي انجذب بها الشباب إلي الأفكار الاشتراكية، ويفرق به عن ما أسماه "اليسار الراديكالي" المتمثل في: حزب العمال الشيوعي المصري والحزب الشيوعي المصري (8 يناير)، والحزب الشيوعي المصري الذي أعيد تأسيسه عام 1975. ثم يتوقف عند "اليسار الجديد" الذي بدأ بالتشكل في فترات ما بعد النكسة، وهو يسار لم يتعد كونه أندية مثقفين ذات صلة واهية بالطبقة العاملة. أو الأدق هو نشوء "يسارين" بعد النكسة: يسار رسمي وآخر راديكالي، يميز المؤلف بينهما واصفا تاريخهما والعلاقة فيما بينهما وبين السلطة، يبرز أيديولوجياتهما ونجاحاتهما وحدود كل منهما، في محاولة لتفسير تهميش القوي الماركسية منذ بدايات الثمانينيات. الأسبوع المقبل: شهادات قوي اليسار علي أعنف فترات المعارضة السياسية.